سوريا: هل حقاً عاد اللاجئون فرحين؟

الساعة 2522 ديسمبر 2018آخر تحديث :
هل حقاً عاد اللاجئون فرحين؟
السفير العربي

سوريا: هل حقاً عاد اللاجئون فرحين؟

 

بعد جهد استمر شهوراً، نجح “أبو عدنان” بتأمين التصاريح اللازمة من الأجهزة الأمنية لعودته إلى بلدته “مسرابا”، القريبة من مدينة حرستا بريف دمشق. حلمٌ لاحقه منذ غادر منزله إثر اشتداد المعارك حوله، مجبَراً على الرحيل إلى مدينة اللاذقية الساحلية صيف العام 2014.

اختيار الرجل الخمسيني وعائلته المكونة من شابين وصبيتين، مدينة اللاذقية، كان دافعه الأساسي، كما يقول، وجود قريب له في حي “قنينص” الشعبي (وسط المدينة) الذي ساعده في استئجار بيت وفتح محل لإصلاح كهرباء السيارات – مهنة أبو عدنان الأساسية – وهو ما فضّله الرجل بدلاً من “الشنططة” في دول الجوار أو مخيمات اللاجئين فيها.

“لم يكن خياراً إجبارياً لنا، فبعد ما يقرب من ثلاثة شهور في التنقل بين منطقة وأخرى قرب دمشق، وفي ظل التدفق الهائل للناس من منطقتنا وغيرها باتجاه لبنان والأردن، قررنا كعائلة الانتقال إلى اللاذقية. فالحياة هناك ممكنة بعيداً عن التوتر والمظاهرات والمشاكل”. يقول الرجل: “عوامل أخرى منعتني من التفكير بالخروج من البلد. ففي العام 2013 اعتقل ابني الأكبر وسيق إلى الخدمة العسكرية، إبن عمي انشق عن الجيش الحكومي والتحق بـ”جيش الرحمن”، أخي الأكبر غادر سوريا إلى لبنان وإلى اليوم لم يعد”.

وبفضل سمعة مهنيي مناطق ريف دمشق المعروفة سورياً في قطاع السيارات وإصلاحها، لم يعان الرجل من مشاكل اقتصادية أثناء إقامته في اللاذقية، فقد كان محله محط إقبال بسبب اسمه المعروف، فأصحاب المهن الصناعية القادمين من الداخل ساهموا في رفع سوية نظرائهم الساحليين عبر تدريبهم والعمل معهم، عدا عن أن موقف الرجل السياسي بقي ضمن الحدود التي هرب إليها كل من لجأ من مناطق المعارضة إلى المناطق المؤيدة، فكانت عبارة “الله يطفيها بنورو أحسن شي” محل إجماع يتفادى الجدل فيما جرى ويجري في البلاد متمنيين لها أن “تعود” أو “تصبح” أفضل مما كانت عليه، خاصة بعد تحول الوضع القائم إلى صراع عبثي دولي لا دخل لغالبية الناس فيه.

حالة أبو عدنان تكاد تكون نموذجاً منتشراً لسوريين اختاروا البقاء داخل البلاد. أشخاص لا يقتربون من عالم السياسة بمعناها الحياتي، وهو إذ يعود اليوم إلى “مِسرابا” ويعيد تأسيس حياته من جديد، فإنه يشبه سوريين آخرين بدأوا بالعودة إلى مناطقهم محمَّلين بإرث علاقات جديدة مع سوريين آخرين، مختلفين عنهم في السياسة كما في الانتماء المناطقي وربما المذهبي، ومتفقين معهم في أنهم أجزاء من مجموع لم يكن يريد من الحياة غير عيشها بكرامة.

يعترف أبو عدنان أن قرار عودته جاء بعد أن هدأت الأحوال في منطقته، وعادت “الدولة” بتعبيره إلى هناك، على الرغم من التحفظات الكثيرة التي ما زالت تحيط بالحياة في تلك المناطق، ومن صعوبات في الكهرباء والماء ومن حواجز تفتيش على “الطالعة والنازلة”. يقول الرجل: “بعد دخول الجيش مناطقنا وخروج الناس إلى مراكز الإقامة المؤقتة، كان لدي أختين في مركز “حرجلة” (قرب العاصمة)، تمكنت من إخراجهما من هناك إلى بيت العائلة في داريا”، كذلك تمكنت من تأمين إخراج “عدنان” ـ ابني الأكبر – بعد اختفاءه في الرقة لعامين ـ وإيصاله إلى ألمانيا سالماً ليتابع دراسته”.

كان الشوام، وهم بالأصل الأقل عدداً بين من نزح الى الساحل، آخر من بدأ بالعودة إلى مدنهم وقراهم بعد انتهاء المعارك المسلحة في الغوطة العام الماضي. يلاحظ غياب واضح لأسماء الماركات الشامية الشعبية للأكل أو للباس أو لغير ذلك خلافاً للحلبية الذين وطّن جزء منهم أعماله الصغيرة في الساحل. وإلى جانب أبو عدنان فقد عاد آخرون من القلة القليلة التي سكنت مراكز الإيواء هنا وغالبية مقيميها كانوا من الطبقات الاجتماعية الأفقر، كما هو حال أهل الريف الأقرب إلى البادية الدمشقية.

 

إفراغ مراكز الإيواء بالإجبار

قبل أن تعلن روسيا رسمياً إطلاق مبادرتها لإعادة اللاجئين السوريين ممن هم خارج البلاد منتصف تموز/ يوليو 2017 عبر خطة لوزارة الدفاع، كانت السلطات السورية تدفع باللاجئين في الداخل إلى العودة إلى مراكز سكنهم أياً كان وضع هذه المناطق. في الساحل بدأ تفكيك مخيم المدينة الرياضية (جوار مدينة اللاذقية ويبعد أقل من 2كم، أنشئ عام 2013، وسعته قرابة ستة آلاف شخص) فتم ترحيل العائلات الحلبية التي قطنت المكان حتى العام 2017. وإلى جوار هذا تمّ بأوامر رسمية تفكيك جميع مخيمات المدينة وريفها التي تشمل أكثر من 95 في المئة من قاطني مراكز إيواء الخيم والمدارس والتجمعات الأخرى، وآخر هذه التجمعات التي فككت كان مركز “الجنديرية” الذي كان يضم حوالي مئتي عائلة.

لا يعرف اللاجئون ماذا جرى بالضبط. يقول السيد محمد أبظلي (54 عاماً من حلب، مزارع من خان العسل): “تلقينا إنذاراً بالإخلاء بحجة أن إدارة المدينة تريد المكان وتريد إقامة مهرجان المحبة من جديد، إلا أن المهرجان لم يقم بعد عامين من مغادرتنا”، والأهم: “علينا مغادرة اللاذقية لأنه غير مسموح لنا البقاء فيها إلى حلب التي “تحررت من الإرهاب” وصار ممكنا لنا العودة”.

وفي الوقت الذي تقول فيه السلطات السورية أنها أقامت عدداً من نقاط استقبال لاجئين من خارج البلاد في اللاذقية، فإنها تستمر في إجبار اللاجئين في الداخل على العودة إلى مناطقهم الأصلية، ويقدر عدد هؤلاء بحوالي ثلاثة ملايين أُعيد منهم قرابة مليون شخص باتجاه محافظاتهم (حلب وحمص ودمشق بشكل رئيسي)، في حين أن جزءاً من هؤلاء بقي في مناطقه الجديدة كحال أهالي الرقة المقيمين في الساحل واللاذقية تحديداً، حيث لم يعد منهم سوى قلة قليلة جداً.

في طرطوس، الساحلية أيضاً، تمّ إغلاق جميع المخيمات ما عدا “مخيم الطلائع” (جنوب المحافظة)، وهو تُرك لمزيد من الاستعراض الإعلامي، دون إنكار جهود المجتمع المحلي، فبفضله – غالباً – بقي سكان هذا المخيم على قيد الحياة. حالياً وكما كان سابقاً، من غير المسموح لأحد من خارج المخيم الدخول إليه وفقاً لأحد الناشطين العاملين فيه سابقاً.

تحتل حلب المرتبة الأولى في عدد المهجرين داخلاً إلى الساحل، وقد أُعيد معظمهم إليها. وقبل أقل من شهرين، تم إخلاء آخر موقع في منطقة البسيط (“شاليهات العمال”) من نازحيها الحلبيين المقدر عددهم بحوالي 2500 شخص، إثر صدور قرار من قبل نقابة العمال بضرورة إخلائها بشكل طوعي. وبعد معركة وإطلاق نار مع الشرطة وفقاً لإحدى الشبكات الموالية للنظام، فقد تمّ الإخلاء دون وقوع ضحايا، وقد عاد بعض هذه العائلات إلى حلب فيما فضل آخرون الاستئجار في مناطق أخرى ضمن اللاذقية.

في دمشق – كنموذج آخر – كان عدد المراكز الموجودة رسمياً 21 مركزاً، غالبية المهجرين من مناطق ريف العاصمة، سُمح لهم بالخروج منها والعودة إلى مناطقهم على دفعات عبر قوائم تم إعدادها بين المجلس المحلي للبلدات وإدارات مراكز الإيواء والجهات الأمنية. وإلى اليوم، ما تزال الأعداد التي عادت إلى مناطقها من مراكز الإيواء تحديداً خاضعة لهذه الرقابة الثلاثية. وآخذين بالاعتبار أن شروط الحياة في المراكز هي اليوم في حدها الأدنى في ظل انكفاء كثير من الجمعيات عن العمل ضمنها، ومعها وانكفاء مماثل للجهات الرسمية، وتقلص كبير في حجم ونوعية الخدمات المقدمة، فإن الخروج من هذه المراكز أصبح هماً يتفوق على همَّ تأمين العيش والأكل والشرب. من هنا، ربما يمكن فهم التناقص كبير العدد في قاطني هذه المراكز، وفي إغلاق عدد منها زاد عن نصفها.

في طرطوس، الساحلية أيضاً، تم إغلاق جميع المخيمات ما عدا “مخيم الطلائع” (جنوب المحافظة)، وهو تُرك لمزيد من الاستعراض الإعلامي، دون إنكار جهود المجتمع المحلي الذي غالباً بفضله بقي سكان هذا المخيم على قيد الحياة. حالياً وكما كان سابقاً من غير المسموح لأحد من خارج المخيم الدخول إليه وفقاً لأحد الناشطين العاملين في المخيم سابقاً.

داخلياً أيضاً، يبقى مخيم الركبان الواقع بالقرب من المثلث الحدودي مع العراق والأردن وبالقرب من مواقع للقوات الأميركية في التنف، آخر المخيمات الكبيرة في البلاد، والاهتمام الروسي به لا يقف عند حدود النزعة الإنسانية (إعلامياً) بل يتعداها إلى رغبة معلنة – ومبطنة في نفس الوقت – باتجاه سحب ملف اللاجئين من دول الجوار ما أمكن ودفعهم للعودة (بالظاهر لوحدهم) إلى مناطق سكناهم بغض النظر عن صلاحية هذه المناطق للعيش، بالطبع يرافق هذه الرغبة اشتغال حكومي سوري (إعلامي) بأن هذا الملف هو رأس اهتمامات الحكومة. قبل أيام شن السفير السوري في الأردن هجوماً ليس بريئاَ على الحكومة الأردنية التي قدمت للسوريين (تصاريح للعمل) في البلاد كعمال زراعيين بالدرجة الأولى.

 

الإجبار على العودة من الخارج

على الجوانب الأخرى من الحدود، استفاق الجميع، فجأةً، على أنهم لم يعودوا قادرين على استضافة هذا العدد الكبير من اللاجئين، ويجب على هؤلاء العودة إلى ديارهم. وهذا الموقف لم يكن نتاج تغيرات أصابت الحال السورية بقدر ما كان تنفيذاً لأجندة دولية – هي الأخرى – نابعة من مصالح الدول التي طرحتها (روسيا وتركيا بشكل أساسي كدول فاعلة، ثم الدول المضيفة التي وجدت نفسها أمام ضعف التمويل الذي كان يصل منه حده الأدنى إلى اللاجئين).

عودة المهجّرين السوريين الذين خرج معظمهم بشكل قسري من البلاد، تقوم اليوم أيضاً على قسرهم على العودة من مختلف مناطق الجوار السوري، وحتى من أوروبا وألمانيا تحديداً، التي يجري تداول إعلامي فيها عن نية لتغيير السياسات الموجهة للاجئين، كما يقع تقليص كبير للدعم المقدم لهم من الجهات الدولية والمحلية. في لبنان – كنموذج – فحتى المسجلين رسمياً في قوائم الأمم المتحدة لم يعترف بهم كذلك، وأجبر قسم منهم على تفكيك خيم إقامتهم تحت الضغط والإكراه، أو عبر مطالبتهم بعدم دفع بدلات إقامة الخيم (200 دولار). ولم يقم لبنان بأي ترحيل “رسمي” للاجئين السوريين، وما يحدث هناك هو تضييق متسع النطاق يوماً إثر آخر.

تركيا هي الأخرى، وبعد أن طرحت مشاريع عديدة لتجنيس بعض اللاجئين السوريين في صراعها مع الأكراد جنوباً من جهة، ولتأمين أصوات انتخابية لأردوغان من جهة ثانية، ولإمكانية استخدام هذه الورقة بما يتعلق بموضوع الشمال السوري ومن جهة ثالثة، وهي الأهم – وهو ما يحدث حالياً من إعادة لجزء من هؤلاء اللاجئين إلى مناطق الشمال وهم يحملون جنسية مزدوجة في الغالب- كما تقوم تركيا كذلك بفتح فروع لجامعاتها ومؤسساتها مع عودة اللاجئين إلى مناطقهم .

 

خلاصات أولية

ما تزال قضية اللاجئين، كما انطلقت بالأصل، محلاً للمبازرة السياسية بين الجميع، ولا يفكَّر بتناولها أو تصعيدها إلا في محلات الاستفادة السياسية أو الاقتصادية، في حين يبقى اللاجئون دون حول ولا قوة. وفي ظل انشغال المعارضة والنظام وأنصارهم الدوليين بتحقيق مكاسب على الأرض، وفي غياب كيان جامع لهؤلاء اللاجئين يهتم بشؤونهم ويتبنى قضيتهم كقضية إنسانية – ويمنع استغلالها والمبازرة فيها، فإن سياسات الأطراف المرتبطة ستستمر بمزيد من الضغط عليهم وإعادتهم غالباً بالإجبار الناعم (أو القسري أحياناً)، ليشهدوا بذلك ترحيلاً جديداً من حيث تموضعوا بصعوبة، دون نسيان أن النسيان يلف قضيتهم بعد عودتهم إلى مناطقهم.

 

 

المصدر: السفير العربي

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

اكتب ملاحظة صغيرة عن التعليقات المنشورة على موقعك (يمكنك إخفاء هذه الملاحظة من إعدادات التعليقات)
    الاخبار العاجلة