في الديمقراطية والدمقرطة والانتقال الديمقراطي

الساعة 2515 يوليو 2018آخر تحديث :
مقدمة

مقدمة

يتراءى لمتابعي الأحداث في الوطن العربي خلال هذه العشرية من الالفية الثالثة صورتان: الاولى تمثلت في الثورات الشعبية التي اندلعت منذ نهاية 2010 والتي كانت تنادي بالحرية والعدالة الاجتماعية اللذين لا يتحققان بوجود انظمة الاستبداد والفساد والتبعية، والثانية تتجسد في شكل حرب مسعورة على معرف نكرة (” الارهاب”) تقودها بالوكالة انظمة الاستبداد الوظيفي وتندرج في إطار استراتيجيات دولية تستهدف العالم العربي الاسلامي، وليس “الارهاب” الا هدفها العارض أو الظاهر. انها حرب تستهدف صراحة المعارضة السياسية الحقيقية (ذات المرجعية الاسلامية اولا، وكل تيار اخر يرفض الاستبداد والتبعية) والارادة الحرة للشعوب العربية الاسلامية وكل اجندة وطنية تحررية.

أما الثابت في الحالتين فهو الاستراتيجيات الغربية الصهيونية التي تهدف الى مزيد تفكيك العالم العربي الاسلامي (وإعادة تركيبه) تحت مظلة الحرب على “الارهاب”. واما المتغير فهو الارادة الكامنة للشعوب العربية التي قد تكون خسرت جولة في معركتها ضد هذا التحالف غير المقدس (الاستبداد والهيمنة والاحتلال) ولكنها لم تخسر الحرب.

لقد ظلت المنطقة العربية والإسلامية لعقود توسم بالاستعصاء والاستثناء1 لجهة علاقتها بالديمقراطية. لكن ثورات الالفية الثالثة فأجات المعرفة2 غربا وشرقا.

وإذا كانت التحولات السياسية التي عرفتها بعض الدول العربية منذ ديسمبر2010 تؤشر في جانب منها على حيوية الإنسان والشعوب في هذه البقعة من العالم، فإنها مثلت كذلك نقضا وتجاوزا لكل الأطروحات الفكرية الاستشراقية والفلسفية التي وسمت الحضارات الشرقية والثقافة العربية الاسلامية بالاستبداد.

و تأسيسا على أن ما جرى في تونس (ديسمبر 2010) ومصر ( جانفي 2011 ) واليمن وغيرها من البلدان شكل صدمة للعقل الغربي والعقل العربي/الاسلامي، فان تلك التحولات مثلت مجالا خصبا للباحثين الذين اختلفوا ليس فقط في تكييفها وتحديد طبيعتها واستشراف مساراتها ومالاتها بل كذلك في الأدوات التحليلية المعتمدة في مقاربتها.

ويمكن القول أن اتجاها مهما لدى الباحثين في الغرب كما في الوطن العربي حاول توظيف نظرية الانتقال الديمقراطي بأدواتها التحليلية لفهم هذه التحولات وتفسيرها واستشراف مالاتها.

ان التوظيف الواسع لنظرية الانتقال الديمقراطي مثل السمة الغالبة للكتابات المتعلقة بالثورات العربية.

لم يقتصر الامر على المقالات الصحفية التي ترتكز بطبيعتها على المعلومة وتنغلق على الحدث ولا على الاعمال الانطباعية العاطفية التي تتنافى مع الموضوعية ولا تسمح ببناء مقولات علمية قادرة على تفسير التحولات الكبرى.

لقد طال هذا التوظيف اغلب الاسهامات الاكاديمية التي لم يجد اصحابها، ربما، بديلا منهجيا ومعرفيا يسلكونه لفهم وتفسيرتلك الثورات التي شهدتها بعض الدول العربية منذ نهاية الالفية الثانية.

ان مثل هذا السحر الذي مثلته (ولازالت تمثله) نظرية الانتقال الديمقراطي والذي تملك (بتشديد اللام) كتابنا ومثقفينا وسياسيينا كان أحد الاسباب التي دفعتني الى البحث في هذا الموضوع في محاولة لاستجلاء اسراره.

لذلك جاء اختيارنا لنظرية الانتقال الديمقراطي، موضوعا لهذه الدراسة، مستجيبا لحاجة معرفية مزدوجة والى حاجة تاريخية.
1 – حاجة معرفية مزدوجة:

اولا – حاجة معرفية عامة: ان هيمنة المقاربة الانتقالية على الاسهامات البحثية حول الثورات العربية تدعونا (وتدعو القارئ كذلك) الى اكتشاف العناصر التالية:

1 – اهم المقاربات المتعارف عليها للإحاطة بالتغيرات السياسية

2 – نظرية الانتقال الديمقراطي التي تمثل اداة مهمة لتفسير التغيرات السياسية التي تحصل داخل نظام ما سواء لجهة اليات انهياره أو لجهة إعادة بناء النظام والتأسيس للنظام الجديد (وما يتعلق بذلك من مواثيق واجراءات ومؤسسات)، و

3 – ما يتلو الانتخابات ” التأسيسية ” (والمرحلة الانتقالية عامة) من تجذير دائم للتعددية السياسية والديمقراطية اي مرحلة ترسيخ الديمقراطية التي جاءت لتكمل المنظور الانتقالي.

ثانيا – حاجة معرفية خاصة تدعونا (والقارئ) كعرب ومسلمين الى استنتاج حدود اعمال المقاربة الانتقالية (بأدواتها المختلفة) لفهم الثورات العربية والى التساؤل عن مشروعية فهم مغاير أو مقاربة مختلفة (وان اختلفت مالاتها).
2 – حاجة تاريخية مزدوجة:

اولا: حاجة تاريخية عامة: لا يخرج هذا العمل عن كونه محاولة لمواكبة ما شهدته بعض البلدان العربية من ثورات وانتفاضات واحتجاجات استثنائية حركت مياه الاستبداد الاسنة ومكنت الشعوب العربية من استعادة حريتها. انه كذلك مساهمة متواضعة لفهم ما جرى.

ثانيا – حاجة ظرفية انية تتمثل فيما ما تعرضت له اغلب تلك الثورات من انسداد وتعثر ومن هجمة ثورية مضادة ومبرمجة استهدفت، ولازالت، تستهدف القضاء على الانجازات التي حققتها (ومنها خاصة مطلب الحرية) والانقلاب على المسار الانتقالي ومن ثم اعادة انتاج منظومة الاستبداد والفساد تحت عناوين مضللة مختلفة.

هذ الثورة المضادة تتقاطع فيها مصالح قوى داخلية تضررت من التغيير وقوى اقليمية معادية لأي تغيير ديمقراطي حقيقي (بعض دول الخليج، الكيان الصهيوني..) وقوى دولية لا تأمن على مصالحها الاستراتيجية في وجود انظمة ديمقراطية تكون سليلة ثورات شعبية ومنبثقة عن ارادة شعبية حرة.

يصرح ” غريغوري غوز” مثلا في مقالة له بمجلة شؤون دولية (2005) ان الولايات المتحدة ” يجب الا تشجع الديمقراطية في العالم العربي لان حلفاء واشنطن من العرب السلطويين يمثلون رهانات مستقرة”.

وإذا كان ما تقدم هو اشارة الى بعض الاسباب والدواعي التي حملتنا على البحث في هذا الموضوع المتشعب فما هي الاهداف أو المقاصد؟

ان ما نهدف اليه من خلال هذا المدخل النقدي يتمثل في النقاط التالية:

1- الوعي بأساسيات وبمفردات نظرية الانتقال الديمقراطي مقاربة وتصورا

2- إدراك العلاقات المفترضة بين الانتقال الديمقراطي والديمقراطية

3- اشراك القارئ في اكتشاف حدود الانتقال الديمقراطي نظرية ومقاربة

4- التنبيه الى ضرورة الحذر الشديد عند تطبيق هذا الإطار النظري على التحولات العربية الراهنة والتساؤل حول مشروعية البحث عن مقاربة مختلفة.

كيف نحدد مشكلة بحثنا اذن؟

يتمثل السؤال المركزي الذي تحاول الدراسة الاحاطة بما أمكن من جوانبه في التالي: الى اي مدى يمكن للأطر الابستيمولوجية والنظرية التي يقترحها علم الانتقال الديمقراطي وعلم الترسيخ الديمقراطي وبصورة اشمل نظريات الدمقرطة ان تحيط بديناميات التغيير التي تعرفها بعض البلدان العربية؟

ان تحديد المشكلة البحثية يسمح لنا بتعيين الفروض التي تقوم عليها الدراسة. فما هي هذه الفروض؟

يقصد بالفروض البحثية عبارة عن صياغة محددة للمشكلة البحثية ووضع إجابات محتملة لها بشكل صحيح من أجل اختبارها ميدانياً وعملياً وقد تأتي نتائج الاختبار محققة لتلك الفروض أو مخالفة لها.

تستوجب معالجة المشكلة البحثية السابقة وضع الاجابات المحتملة التالية:

1 – هذه الاطر الابستيمولوجية والنظرية يمكنها الاحاطة بالثورات العربية.

2 – هذه الاطر الابستيمولوجية والنظرية يمكنها الاحاطة بالثورات العربية جزئيا.

3 – هذه الاطر الابستيمولوجية والنظرية لا يمكنها الاحاطة بالثورات العربية.

تسعى هذه الدراسة بتواضع الى اختبار هذه الافتراضات للتحقق من مصداقيتها وصلابتها في ضوء تلك الاطر الابستيمولوجية والنظرية من خلال مقاربة تحليلية نقدية لنظرية الانتقال الديمقراطي.

كيف سنختبر تلك الافتراضات في ضوء المشكلة البحثية المؤطرة للموضوع؟

للإجابة على هذا السؤال نقول ما يلي:

1 – يقوم التناول الشائع في الكتابات الانطباعية والاعلامية وحتى الاكاديمية التي انتشرت بسرعة منذ تفجر الثورات العربية على محاولة اخضاع الاخيرة الى الأطر النظرية والابستيمولوجية للانتقال الديمقراطي.

وما يؤخذ على هذه المقاربة على الاقل امران:

اولا – غلبة الطابع الشكلي القانوني الذي يجنح الى اختزال عملية التغيير السياسي في القواعد والاجراءات والمؤسسات. وهذا ما يفسر جزئيا على الاقل تصدر رجال القانون الدستوري للمشهد في المنابر الاعلامية والندوات والمؤتمرات.

ثانيا – الوقوع في اسر ” النماذج” وفي منطق الاسقاط والتعسف على الادوات النظرية والمنهجية للانتقال الديمقراطي لتطويعها لخدمة هدف وغايات البحث.

2 – واعتبارا لما تقدم، وعوض اخضاع التجارب العربية الى الاطر الابستيمولوجية للانتقال الديمقراطي كما هو شائع حتى في الاوساط الاكاديمية، اخترنا سلوك مسار مغاير يقوم على اختبار القدرات التفسيرية والتحليلية لعلم الانتقال الديمقراطي للتثبت من جدوى توظيفها في مقاربة الثورات العربية.

وتطرح مفاهيم الانتقال الديمقراطي وترسيخ الديمقراطية (والدمقرطة بصورة اشمل) كما الديمقراطية عدة إشكاليات (سنعرض لبعضها في متن البحث).

ونلتزم في هذا المدخل بمحاولة عرض هذه المفاهيم كما قاربها الانتقاليون.
أولا – مفهوم الانتقال الديمقراطي:

يعود أول استعمال لهذا المفهوم بمناسبة التجربة الاسبانية في الانتقال الديمقراطي. ويعني في أصوله المرور من نظام استبدادي إلى آخر ديمقراطي.3

وقد تم تعميمه في الأدبيات السياسية بعد التحولات التي شهدتها بلدان أمريكا اللاتينية. إلا أن “الانتقال” استعمل مجردا بالنسبة للأحداث في اروبا الشرقية نتيجة تعقيد الظاهرة.

كما استعيض (بضم التاء) عنه بعد ذلك بمفاهيم الاصلاح والحوكمة الرشيدة..

ويفيد الانتقال عامة المرور من نظام استبدادي إلى نظام يفترض (بضم الياء) أن يكون ديمقراطيا.
1 – الانتقال الديمقراطي مفهوم مركب:

أ – انتقال: يطلق مصطلح انتقال على المسار الذي تتخذه التجربة السياسية في بلد ما. ويتركب من نقطة بداية (معروفة) ونقطة وصول( غير معروفة)

1 – نقطة بداية معروفة لأنها تعبير عن حاضر عايشته المجتمعات التي هي بصدد التغيير.

2 – نقطة وصول غير محددة بل صعبة التحديد.

ب – ديمقراطي: يطلق هذا الوصف على الهدف النهائي للانتقال أو على خاصية المسار الانتقالي.

1 – إذا كانت الديمقراطية هي الهدف النهائي للانتقال، تعود كل المشاكل المتعلقة بتعريفها إلى البروز.

2 – إذا وقع وصف المسار الانتقالي بالديمقراطي، يضاف إلى صعوبة تعريف الديمقراطية مفهوم ” الدمقرطة “.

ويمكن أن تحيل الدمقرطة إلى احد أمرين:

1 – تعزيز الديمقراطية الموجودة فعلا وهذا يستوجب التمييز بين مستويات للديمقراطية.

2 – مرور حقيقي من نظام استبدادي إلى نظام ديمقراطي.

ج – مقاربات المفهوم: نميز على الأقل بين مقاربة زمنية رائجة في الأدبيات السياسية وبين مقاربة وظيفية وعملية.

1 – المقاربة الزمنية:

يعود اعتماد هذا المفهوم إلى ” غيليرمو اودونيل” الذي عرف الانتقال الديمقراطي بكونه ” الفاصل بين نظام سياسي وآخر”.4

ونستنتج من خلال هذه المقاربة ما يلي:

1 – يتعلق الامر بفترة زمنية محددة تنتهي بإرساء نظام سياسي يفترض ان يكون مستقرا.

2 – يتعلق الامر كذلك بوضعيات سياسية صعبة التحديد في غياب قواعد واضحة وفي ظل وجود صراعات حول تلك القواعد ما يعزز عدم اليقين المميز للانتقال (كما للديمقراطية).

3 – مصطلح الانتقال لا يعني اليوم المرور الى الديمقراطية بقدر ما ” يعتبر فاصلا زمنيا يمكن ان تحصل خلاله كل الكوارث ” كما يقول “غي ارمي”.

2 – مقاربة وظيفية وعملية:

على عكس المقاربة السابقة التي تركز على المعطى الزمني للانتقال، فان المقاربة العملية تحاول التركيز على طبيعة الانتقال وكذا على دينامكية الانتقال ذاته. وسنعرض لهذه المقاربة من خلال تعريفين أحدهما “لريشاربانغاس” وثانيهما “لانا سالدانا”.

أولا – تعريف ” بانغاس ” 5 : مرحلة من الأمواج المؤسسية ومن عدم اليقين تحاول فيها القاعدة الديمقراطية ان تهيمن، باعتبارها معيار الشرعية، وإن توجه انطباعات أغلبية الفاعلين وسلوكهم.

ونلاحظ من خلال هذا التعريف ما يلي:

1 – لا يخلو أي تعريف للانتقال الديمقراطي من التركيز على الطابع الإجرائي المؤسسي للانتقال سواء تعلق ذلك بلحظة الخروج من النظام القديم أو أثناءه (الانتقال بالمعنى الضيق) أو بما يتبعه من مرحلة لتجذير الديمقراطية وتعزيزها.

2 – يؤكد هذا التعريف كذلك على عدم اليقين باعتباره في نفس الوقت خاصية مميزة للمراحل الانتقالية وخاصية تعريفية للديمقراطية ذاتها(“بيرزيورسكي”).

3 – يتاطر صراع الفاعلين مبدئيا ضمن المعايير الديمقراطية (ذات المرجعية الغربية) إذ يعمل هذا الصراع على تكريس القاعدة الديمقراطية وتجذيرها باعتبارها المعيار الوحيد للشرعية والموجه لسلوك الفاعلين.

ثانيا – تعريف ” آنا سالدانا” 6 : يمثل الانتقال حسب ” سالدانا” صنفا تاريخيا وسياسيا يوجد بالتوازي مع أصناف أخرى مثل الثورة، التطور، القطيعة .

فالانتقال، في مفهومه الضيق، ” تغيير سياسي مراقب يتم في بعض المجتمعات ويمكن من المرور من نظام إلى أخر دون تحديد لحظة معينة للقطيعة.” ومثال ذلك اسبانيا بعد وفاة فرانكو 1975.

ويمكن انطلاقا من هذا التعريف الإشارة إلى الملاحظات التالية:

1 – اختلاف الانتقال الديمقراطي عن مفاهيم أخرى:

1 – اختلافه عن الانقلاب العسكري: يطلق الانقلاب العسكري على كل تحرك مسلح (او غير مسلح) تقوم به طغمة عسكرية تستهدف الإطاحة بحكومة مدنية والاستيلاء على السلطة تحت اي عنوان.

ويمكن ان نضيف الى ذلك الانقلاب المدني.

ويستوجب تحديد الاختلاف بين الانتقال الديمقراطي والانقلاب العسكري الإشارة إلى بعض الملاحظات من زاويتي التاريخ والأدبيات السياسية.

1 – من زاوية الأدبيات السياسية:

يعود الاسهام الابرز في تحليل العلاقة بين المؤسستين العسكرية والمدنية للمفكر السياسي الامريكي ” صامويل هانتنغتون”. فقد اكد،في كتابه “العسكري والدولة” (1957)، على ضرورة ابعاد العسكر عن السياسة والتفرغ لمهمتها المتمثلة في صون امن البلاد ضد التهديدات الخارجية بما يعزز كفائتها ويحمي الديمقراطية.

ويقول: ” كلما كانت المؤسسة العسكرية مهنية في مهمتها، ابتعدت عن التدخل المباشر في السياسة. وكلما قلت مهنتيها ازدادت تدخلا في السلطة. وتكمن مهنية الجيش في تجويد مهمته الأساسية وهي حماية البلاد من التهديد الخارجي، وهو ليس معنيا بقضايا الأمن والسياسة الداخلية.”

اننا نعتبران مفاهيم الانتقال الديمقراطي (والديمقراطية والدولة المدنية) تتعارض جذريا مع مفهوم الانقلاب العسكري مهما كانت مسوغاته (“الشرعية الشعبية” أو ” الشرعية الثورية”) خاصة بعد مرحلة الاطاحة بنظام الاستبداد وانطلاق المسار الانتقالي وبداية تشكل المؤسسات المدنية المنتخبة.

ان التذرع بالتاريخ (وخاصة التجارب الاسيوية كما حال كوريا الجنوبية والفليبين واندونيسيا في ثمانينات القرن العشرين) لتبرير الانقلاب العسكري يمثل مغالطة علمية وتزييفا للوقائع. ذلك ان العسكر، عندما انحاز الى عموم الشعب (وليس الى فصيل بعينه)، ساهم في الاطاحة بنظام الاستبداد لكنه لم يحل محله بل شكل مجرد قاطرة ساهمت في ارساء دعائم الحكم المدني والديمقراطية.

ان الانتقادات التي وجهت لنظرية “هانتنغتون” غربيا انما استهدفت الدول النامية (وغير الديمقراطية) أو كان اصحابها يقدمون الخبرة (أو السخرة “الفكرية”) لمحاولة ” شرعنة” الانقلاب العسكري في دول بعينها.

فهل تبرر الادوار (غير العسكرية) المختلفة التي اشترعها العسكر لنفسه خارج اطر الارادة الشعبية والقانون هيمنته المطلقة أو الجزئية على الشان العام؟ وهل يبرر تعقيد الاوضاع في دول العالم الثالث عسكرة الدولة كما روج له امثال ” صموئيل فينر”؟ (Samuel Finer )

نرى ان مثل هذه الاطروحة التي تستثني دول العالم الثالث من الطرح المبدئي الذي قدمه ” هانتنغتون” (حول علاقة المؤسسة العسكرية بالمؤسسات المدنية)، اضافة الى خلفيتها العنصرية، تمثل واحدة من الاسهامات العديدة التي تتنزل في إطار تعزيز براديغم استمرارية الاستبداد الذي هيمن على الدراسات الاستشراقية وعلى العلوم الاجتماعية في الغرب.

اما ان يسلم بعضهم ( كما حال ” اوزيان فارول” بوجود قيادات عسكرية تؤمن بالديمقراطية (؟) ثم يستنتج انها يمكن ان تقوم بمسؤولية الضامن للانتقال الديمقراطي في الدول التي تفشل مكوناتها المدنية في التوافق ( كما في مصر بعد 3/7/2013) فهذا قول اقرب الى ” السخرة الفكرية” التي تبرر الانقلاب على الديمقراطية ومبادئها (الغربية) منه الى الموقف العلمي كما يتقاطع مع خلفيات الموقف السابق.7

2 – من زاوية التاريخ: اثبتت التجارب التاريخية للبلدان التي شهدت انقلابات عسكرية حقائق لا يمكن اخفاؤها أو تجميلها تحت اي عنوان شعبوي أو “علمي” ومنها:

– الانقلابات لا تؤسس للديمقراطية ولا تعززها لأنه لا قياس بين شرعية صناديق الاقتراع (التي يستدعى الجميع من المكلفين اليها دون اقصاء أو تمييز) وبين القوة العسكرية التي تصطنع ” شرعية” مزيفة ومضللة (بكسر اللام). فالانقلابات العسكرية في الوطن العربي مثلا فشلت لا في تحرير الفرد وارساء الديمقراطية فقط بل في التنمية وفي تحقيق الاستقلال الفعلي للأوطان.

– اي طغمة عسكرية (أو “زعيم”) تستولي على السلطة لا تنفذ الا مصالحها الفئوية اضافة الى توجهات وطموحات الفئات (نخب سياسية، دينية، اقتصادية وغيرها) التي دعمتها وساندتها و” شرعنت” انقضاضها على الحكم وليس مصالح الشعب عامة.

ويمكن القول اذن ان الانتقال الديمقراطي يختلف عن الانقلاب سواء كان عسكريا (او مدنيا) وعن اي شكل من الانتقال يهدف الى اعادة انتاج منظومة الاستبداد مهما كانت عناوينه أو شعاراته.

2 – اختلافه عن الثورة: لا وجود لتعريف علمي جامع مانع لمصطلح الثورة8

فقد توظف – كما يقول “عزمي بشارة” – للدلالة على اي تحرك مسلح أو غير مسلح ضد نظام حكم معين كما يمكن ان تستعمل للدلالة على التحركات (الشعبية) التي تستهدف اسقاط النظام واستبداله.

فالثورة عامة حركة سياسية تبتغي احداث تغييرات جذرية على البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بلد ما وذلك بالتمرد على السلطة القائمة ويقوم بها افراد (اذا كان التحرك مسلحا) أو الشعب.

و نكتفي هنا بالاشارة الى ما يلي:

1 – الثورة الشعبية ضد نظام استبدادي سبيل ممكن للانتقال الديمقراطي كما هو حال التحولات التي تعرفها بعض الدول العربية منذ ديسمبر 2011 ( رغم اختلاف مساراتها ومالاتها).

2 – لئن اعترف الاعلام المؤسسون لعلم الانتقال الديمقراطي مبدئيا بالثورة الية ممكنة للانتقال، فانهم لم يناقشوها بل استبعدوها لاسباب عديدة ( سنبينها لاحقا) منها التصور النخبوي للانتقال الذي هيمن على تلك النظرية.
2 – الانتقال تغيير مراقب:

تقوم اغلب الدراسات على تصورالانتقال باعتباره مسارا مركبا من ثلاثة مراحل اولها الانقسام الداخلي لنخب النظام الاستبدادي، ثانيهما الانفتاح وثالثهما المفاوضات الشكلية وغير الشكلية بين نخب النظام الاستبدادي ونخب المعارضة. واعتبارا لان هذا الانتقال يتم من اعلى ( بمبادرة من النظام أو باتفاق بينه وبين المعارضة)، فان هذا التصور(النموذجي للانتقال) يجعل نخب النظام القديم و/او نخب المعارضة فاعلين رئيسين في عملية الانتقال بحيث يكون مسار الخروج من الاستبداد مراقبا سواء لجهة الفاعلين القائمين عليه أو لجهة المواثيق التي تحدد مدى ومفاعيل التغيير المستهدف .
3 – الانتقال إدارة :

تاسيسا على ما تقدم بيانه، يحيل الانتقال في العمق على ادارة لمسار الخروج من الاستبداد وبناء الاجراءات والمؤسسات والقواعد الديمقراطية. يتعلق الامر اذن بادارة يعتبرها الشعب مرضية ويراها الفاعلون المتداخلون ( ممثلو السلطة الجدد) أو المعنيون( المجتمع الدولي) حكيمة لمجموعة من الصعوبات النظرية والعملية.

يمكن التمييز منهجيا بين مفهومين للانتقال الديمقراطي:

1 – مفهوم ضيق للانتقال يتعلق بلحظة الخروج من النظام الاستبدادي والشروع في ارساء القواعد والاجراءات والمؤسسات الجديدة،

2 – مفهوم موسع للانتقال يتضمن مرحلتين : 1 – الانتقال بالمعنى الضيق 2 -ترسيخ الديمقراطية.
ثانيا – مفهوم ترسيخ الديمقراطية:

نستخدم في هذا العمل ترسيخ الديمقراطية وتعزيزها وتجذيرها كمصطلحات مترادفة.

يقصد بترسيخ الديمقراطية ( أو تعزيزها أو تجذيرها) المرحلة التي تصبح فيها المؤسسات والممارسات والقيم الديمقراطية ثابتة ومستقرة في النظام السياسي.

و يمكن القول ان الديمقراطية قد ترسخت في بلد ما ” عندما يقبل جميع الفاعلين السياسيين الاساسيين حقيقة ان العمليات الديمقراطية هي التي تحدد وتملي التفاعلات التي تتم في النظام السياسي”.9
ثالثا – مفهوم الدمقرطة :

يعتبر ” غي ارمي ” أن عبارة الدمقرطة أصبحت شعارا شبه ساذج تطلق على كل ما هو جيد ومرغوب فيه كما دمقرطة التعليم مثلا.

و يؤكد ان الأمر يتعلق بالمرور من نظام حكم غير ديمقراطي في بلد معين إلى نظام آخر ديمقراطي. وتحيل الدمقرطة في معناها الحقيقي، معناها السياسي على ” مسار إرساء نظام تعددي وعلى نتيجته المأمولة سواء لجهة تجذيره الدائم أو لجهة أصالته في مادة احترام الإرادة الشعبية وحقوق الإنسان.”10

و يستشف من هذا التعريف ان الدمقرطة مفهوم مركب اذ تتضمن بعدين:

1 – مسار ارساء نظام تعددي ( الانتقال بمفهومه الضيق)

2 – تجذير التعددية واحترام الارادة الشعبية وحقوق الانسان

و يمكن اعتبار الدمقرطة مرادفا للتحول الديمقراطي بمعناه الشامل. ذلك ان نقطة البداية في هذه الدراسات تتمثل في وضع قواعد واجراءات جديدة تتم صياغتها – وفق التصور الانتقالي- في اطار محدود وبواسطة نخبة مضيقة قبل ان تستوعب من قبل مجموعة اكبر من الفاعلين. لذلك يميز الباحثون11 بين مسارين:

1 – المسار الاول : تتلخص المشكلة الرئيسية للانتقال الديمقراطي في وضع تسويات اجرائية جديدة ولو كانت جزئية وغير مستقرة،

2 – المسار الثاني : ترسيخ الديمقراطية ويعني التوسيع التدريجي لتلك الاجراءات الى مجموعة اكبر من الفاعلين السياسيين الذين تضبط تلك الاجراءات سلوكهم .
رابعا- مفهوم الديمقراطية :

نشير هنا الى بعض الملاحظات قبل استعراض مفهوم الديمقراطية كما يتجلى في الادبيات السياسية.

1 – لا وجود لتعريف جامع مانع للديمقراطية

2 – المثال الديمقراطي لم يتحقق في الماضي ولا هو متحقق في الحاضر ولن يتحقق في المستقبل مثله مثل أي مثل أعلى آخر على حد تعبير “روبرت دال” أحد أهم منظري الديمقراطية المعاصرين في الغرب12

3 – يعني المفهوم الجذري للديمقراطية ( اي منظورا اليها من زاوية المضمون)– كما يقول الدكتور ” عصمت سيف الدولة – ” ان يكون التنظيم القانوني للمجتمع متفقا مع ما يريده الناس فيه.”13 ولا يمكن لاي تجربة ديمقراطية ان تنجح اذا لم يكن بناؤها الديمقراطي متوافقا مع ما يريده الناس.

4 – لا وجود لشكل تطبيقي اوحد للديمقراطية صالح لكل زمان ومكان ومتجاوز لكل السياقات.

يقول “علي خليفة الكواري”: ” لو كان للديمقراطية شكل جامد ومضمون عقائدي ثابت، لما استطاع نظام الحكم الديمقراطي أن ينتشر عبر القارات ويتكيف مع مختلف الثقافات ” . 14

ويمكن ان نميز من خلال الادبيات السياسية بين ثلاثة مقاربات لمفهوم الديمقراطية تتعلق اولاها بالمفهوم الشائع في الانتقاليات.
1 – المفهوم الضيق / الاتجاه الغالب في السياسة المقارنة:

Schumpeter 1942, lipset, Huntington …

تتمثل الديمقراطية طبقا لهذا التصور المستوحى من “شومبيتر” في مجموعة من الإجراءات تمكن الأفراد من ممارسة سلطتهم في مسار اتخاذ القرار السياسي من خلال إجراء انتخابات مفتوحة حرة عادلة ودورية يتم فيها اختيارالمنتخبين (بفتح الخاء) بواسطة الاقتراع العام.

يرى “شومبيتر” في كتابه ” الراسمالية والاشتراكية والديمقراطية” ان الديمقراطية نظام يتضمن توسيع قاعدة المشاركة في عملية صنع القرار السياسي من خلال الانتخابات التنافسية.

و يتبين من خلال هذا التعريف ما يلي:

1 – يركزهذا التعريف على الإجراءات ويعتبر المتغيرالانتخابي مؤشرا رئيسيا للديمقراطية.

و اعتمادا على ما تقدم تعرف الديمقراطية بكونها نظام للسلطة السياسية في الاساس قد يتحقق بغض النظر عن المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية .

ويعني ذلك ان الديمقراطية لدى ” هانتنغتون” و” ليبست” وقبلهما ” شومبيتر” تمثل منهجا ونظام حكم يتحقق بغض النظر عن القرارات التي تحددها السلطة السياسية وتفرضها.

2 – يتميز هذا التعريف بطابعه العملي أو التجريبي لانه يسمح اعتمادا على مؤشرات عملية بقياس الديمقراطية في الواقع التجريبي وحتى بالنسبة لأنظمة ديمقراطية مختلفة في الزمان والمكان.

و تتمثل هذه المؤشرات في إجراء انتخابات (حرة عادلة مفتوحة دورية باعتماد الاقتراع العام ) والإقرار بالحقوق السياسية والمدنية في بلد معين.

و برى ” لاري دايموند ” ان معيار الديمقراطية الانتخابية يمكن من تصنيف نظم مختلفة باعتبارها ديمقراطيات غلى غرار تركيا وروسيا وكولومبيا . اما التصور الواسع أو الديمقراطية الليبرالية فقد يخرجها من ذلك التصنيف..

3 – طابعه الاختزالي الذي يحصر الديمقراطية، كنظام للحكم، في الانتخابات والتداول السلمي على السلطة والحقوق المدنية والسياسية.
2 – المفهوم الموسع:MacPherson,

يعتمد المفهوم الموسع للديمقراطية على مؤشرات جودة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والفاعلية النسبية للقاعدة القانونية . ويدمج بالتالي اعتبارات اقتصادية ( ” يشار” ) واجتماعية ( “بابيون” و”تورغون” ) وحتى قانونية أو شرعية (اودونيل ).

Yashar, papillon et turgeon, O’Donnell

و يعتبر الباحثون ان هذا المفهوم يكتسي قيمة فلسفية لانه يعتمد مؤشر جودة المواطنة ويتجاوز البعد الإجرائي لتشمل الديمقراطية في الواقع الحقوق السياسية والاجتماعية والمدنية . كما يتميز بطابع معياري مفرط باعتبار ان اهميته تكمن في معرفة ما يجب ان تكون عليه الديمقراطية لا ما هو متحقق بالفعل.

لذلك يبقى هذا التصور مثاليا جدا لانه اذا اعملنا هذه المؤشرات فلا يمكن أن توجد الديمقراطية (نسبيا) إلا في البلدان الاسكندينافية .

3 – التصور الوسيط : البوليارشي أو ” حكم المراكز المتعددة ” ( الاكثر شمولا )

يندرج تعريف ” شميتر” و” كارل” ضمن هذا التصور اذ يؤكدان على ان الديمقراطية 15 نظام للحكم يحاسب فيه المواطنون الحكام عن اعمالهم ” و” يتنافس فيه المواطنون بصورة غير مباشرة بواسطة ممثليهم المنتخبين”. 14

و يركز هذا التعريف على جانبين :

1 – الخصائص التعريفية للديمقراطية : عنصر المنافسة وفعالية السلطة (المحاسبة)، المشاركة والانتخابات المنتظمة، حق المواطنين في التاثير على السياسات العامة بوسائل مشروعة (منها الجمعيات والحركات الاجتماعية وقاعدة حكم الاغلبية) .

2 – الاطار الاجرائي ( والضمانات المؤسسية)

يطلق ” البوليارشي” في لغة “دال” 15 على ذلك النظام السياسي الذي يمكن الافراد من اطار اجرائي يسمح لهم بما يلي:

1 – صياغة تفضيلاتهم

2 – تبليغها من خلال العمل العام أو الخاص، و

3 – تعتبر فيه كل التفضيلات متساوية.

و يتم تجسيم هذه الامكانيات الثلاثة بواسطة سبعة ضمانات مؤسسية هي :

1 – موظفون منتخبون

2 – انتخابات حرة وعادلة

3 – الاقتراع العام

4 – حق الترشح للانتخابات

5 – حرية التعبير

6 – معلومة بديلة

7 – استقلالية جمعياتية.

و يضيف ” اودونيل” ثلاثة عناصراخرى لاتمام تعريف ” دال ” :

1 – لا يمكن اقالة المنتخبين من وظائفهم قبل انتهاء مدة نيابتهم القانونية.

2 – استقلالية المنتخبين عن أي فاعلين اخرين.

3 – التحديد غير المتنازع فيه للتقسيمات الترابية لحق التصويت.

و تكتسي هذه المقاربة طابعا تجريبيا لانها تستخدم مؤشرات تسمح بقياس مطابقة نظام ما لمعايير الديمقراطية ..

و ينظر الى هذا التعريف على انه واقعي دون ان يكون ضيقا ويصلح بالتالي لدراسة الديمقراطيات بما فيها المناطق الرمادية ويمكن من قياس المشاركة والتنافس وفعالية السلطة.

و تشكل هذه المقاربة انعطافة مهمة في مفهوم الديمقراطية في الدراسات الانتقالية. فقد هيمن البعد المؤسسي الاجرائي (التعددية السياسية، مسؤولية النخب الحاكمة) على تصور الديمقراطية لدى الانتقاليين حتى نهايات الالفية الثانية (و لازال) اي ان اهتمامهم كان محصورا في الديمقراطية النيابية.

لقد شهدت دراسات الدمقرطة منذ ذلك التاريخ (تقريبا) تحولا نسبيا تمثل خاصة في الاهتمام بتنظيم المجتمع المدني ( باعتباره سلطة مضادة وحارسا ضد الانحرافات المؤسساتية وضد الفساد السياسي) وبتعزيزمشاركة المواطنين في الشان العام اي الديمقراطية التشاركية.

اجمالا نستخدم في هذه الدراسة الدمقرطة والانتقال الديمقراطي بمفهومه الواسع (الانتقال بالمعنى الضيق وترسيخ الديمقراطية) كمصطلحات مترادفة ( “ارمي” ) وتعني:

1 – مسار ارساء نظام تعددي ( قواعد،اجراءات،مؤسسات)

2 – تجذير التعددية وتاصيل احترام الارادة الشعبية وحقوق الانسان.

كما نستخدم ترسيخ الديمقراطية أو تجذيرها أو تعزيزها كمترادفات ( على النحو الذي بينا اعلاه).

كما نستخدم الديمقراطية مبدئيا بمعنى منظومة من الاليات (التعددية السياسية، حقوق الانسان والحريات) تسمح بالتداول السلمي على السلطة وممارستها على اساس الاختيار الشعبي.

يجدر بنا، قبل الحديث عن التقسيم المنهجي لهذه الدراسة،الاشارة الى ملاحظتين على قدر من الاهمية:

تتعلق الملاحظة بالتاكيد على ان اغلب الدراسات المتعلقة بالانتقال والترسيخ الديمقراطيين تتنزل في اطار التصور الاجرائي للديمقراطية اي الديمقراطية النيابية.

اما الثانية فتطرح سؤالا يتعلق بما اذا كانت الديمقراطية، لدى الانتقاليين، تعني مجرد منهج ونظام للحكم يتحقق بغض النظر عن مضمون القرارات التي تحددها السلطة السياسية أو انها تعني تحديدا الية التنظيم السياسي – الاجتماعي الغربي بمتعلقاته القانونية والاقتصادية والسياسية؟

سنحاول الاجابة على هذا السؤال في متن الدراسة.

و تحقيقا للاهداف المسطرة اعلاه، نتناول في جزء اول الاطار النظري العام للانتقال الديمقراطي من حيث المقاربات والانتقال بالمعنى الضيق وترسيخ الديمقراطية.

كما نسائل ثنائية استبداد – ديمقراطية ونعرض بالنقد لنظرية الانتقال الديمقراطي من حيث المفهوم والمنهج والموضوع في جزء رئيسي ثان.

و نخلص في نهاية عملنا الى البحث في مشروعية مقاربة مختلفة للتحولات العربية بعد التعرض الى فكرة ” نموذج” ديمقراطي غربي والى ” تصدير” مفاهيم الانتقال الديمقراطي.
الجزء الأول
الإطار النظري العام للانتقال الديمقراطي

تتطلب دراسة الانتقال الديمقراطي محاولة الإحاطة بإطاره النظري العام من زاوية تحليلية ونقدية . ويستوجب الأمر التعرض للنقاط التالية:

المحورالاول : في مقاربات الانتقال

المحورالثاني: الانتقال الديمقراطي

المحورالثالث: ترسيخ الديمقراطية
المحور الاول
في مقاربات الانتقال الديمقراطي

حاول الباحثون في مختلف التخصصات ذات العلاقة بالتحولات السياسية وبالدمقرطة استخدام مقاربات مختلفة لفهم ظاهرة الانتقال الديمقراطي.

وإذا اعتمدنا تقسيم ” هانتنغتون ” ” لموجات” الدمقرطة في العالم، أمكننا التمييز بين المقاربات الأكثر شيوعا حسب تطورها التاريخي.

وسنعرض بإيجاز لصنفين كبيرين من هذه المقاربات:

يتعلق أولاهما بالمقاربات الكلية التاريخية (البنيوية الوظيفية)

و يتصل ثانيهما بالمقاربات الإستراتيجية
الباب الأول – المقاربات البنيوية الوظيفية:

حظيت الموجات الأولى للدمقرطة في العالم بدراسات وتحليلات بنيوية تعتمد على متغيرات فرعية كلية ثقافية، اقتصادية، اجتماعية ( الدين، الثقافة المدنية، مستوى الثروة الاقتصادية، البنية الزراعية.. ).

و من بين هذه الاسهامات نذكر خاصة اعمال ” الموند” و” فربا” حول الثقافة المدنية واعمال ” ليرنر” و” ايزنتاد” حول التحديث واطروحة الشرطية الاقتصادية ل”سيمور ليبست” ..

لقد ساهمت هذه المقاربات الكلية التاريخية في فهم شروط نشاة الانظمة التعددية وتجذيرها واستقرارها في محاولات لا تنتهي لتفسير الانتقالات الديمقراطية.
فقرة اولى- الثقافة المدنية : ” الموند ” و” فربا “16 :

يعود استعمال مصطلح الثقافة السياسية إلى سنة 1956 عندما اعتمده ” الموند ” أداة للتحليل يمكن تطبيقه على كل المجتمعات وفي إطار تاريخي تميز بالتوتر مع الغريم السوفيتي.

ويمكن تعريف الثقافة السياسية باعتبارها مجموع القيم والمعتقدات والاستراتيجيات التي تسمح للأفراد أن يعطوا معنى لتجاربهم في علاقاتهم بالسياسي.

و تندرج الثقافة السياسية كما رسمها الباحثان الأمريكيان في كتابهما ” الثقافة المدنية ” 1963 في تصور أكثر شمولا يتعلق بالتحديث السياسي والاقتصادي والاجتماعي وتساهم بما هي أساس ثقافي أو إيديولوجي في دعم المؤسسات الجديدة.

فالحداثة هي مسار لتحرير الثقافة الضيقة في اتجاه آفاق أرحب.

و تمكن المقاربة الانثربولوجية للثقافة السياسية من دراسة الثقافات السياسية الوطنية لبلدان مختلفة بواسطة المنهج المقارن.

و يميز ” الموند ” و” فربا ” بين ثلاثة أبعاد للثقافة السياسية :

1 – البعد المعرفي الذي يحيل إلى المعارف، المؤسسة وغيرها، التي يكون الفرد قادرا على بنائها حول الفاعلين وقواعد عمل الحكومة.

2 – البعد العاطفي ويعني الانفعالات التي تثيرها القضايا السياسية ومنها اللامبالاة/الاهتمام، الانجذاب*/الرفض، المتعلقة بأحداث أو رموز أو قيم تعرفها الساحة السياسية.

3 – البعد القيمي ويعني القدرة على اتخاذ أحكام قيم، منفتحة أو لا، حول ما يدور في المجال السياسي ( أصناف مثل فعال/ غير فعال، قانوني/غير قانوني، مشروع/غير مشروع..).

و اذا كان منظرو التحديث قد اجروا العديد من الدراسات الميدانية لاثبات وجود علاقة قوية بين الثقافة المدنية وبين الالتزام بقيم الديمقراطية والمشاركة والاعتدال، فان نظرية الثقافة السياسية للباحثين الامريكيين قد تعرضت للنقد من زوايا عديدة اهمها :

1 – منح متغير الثقافة السياسية استقلالية كبيرة:

قدر ” دينيس كاش ” * في كتابه ” مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية ” 2001 أن مصطلح الثقافة استعمل بطريقة متعسفة بمعنى الايدولوجيا . وشدد على أن ذلك المصطلح لا يمكن فصله عن الظواهر الثقافية الأخرى لمجتمع معين. كما بين وجود ثقافات سياسية فرعية مثل يمين / يسار.

و هاجم ” برتراند بادي “17 في كتابه ” الثقافة والسياسة ” (1986) أوليات وجود ثقافة سياسية تكون ” قطاعية ، مستقلة، ومتناظرة حسب تعبير” الموند ” و” فربا ” معتبرا أن الأمر يتعلق ببناء قبلي لمفهوم الثقافة ومؤكدا على أن الثقافة شاملة بطبيعتها .

و يتمثل موضوعها في تصور ” العلاقات التي تربط بينها مختلف الوظائف الاجتماعية وفي مقاربة السياسي في إطار وضعيته الخاصة.

2 – عدم تناسق مفهوم الثقافة الذي لا يحيل إلى شيء ملموس :

و في هذا الإطار يدافع ” فيليب برو “18 في كتابه ” علم الاجتماع السياسي” عن إمكانية فهم أكثر ثراء لمصطلح ثقافة باعتبارها مزيجا لعناصر غير ثابتة وأجوبة لتحديات ومشاكل تجابهها مجموعات أخرى . فالثقافة تفترض بصمات وتطورات ( علاقاتها بثقافات أخرى وما ينتج عنها من مظاهر تهجين وتوترات هوياتية دفاعية ).

فالثقافة السياسية بمعناها الواسع يجب ألا يقع خلطها مع الايدولوجيا بمعناها العلمي لان هذه الأخيرة تركز على الطابع الملتزم للمعتقدات بينما تبقى الثقافة في حقل الحياد.

و يلاحظ ” برو ” بالنتيجة أمرين :

1 – كل النظم الثقافية لها قيمة وهو ما يفترض النسبية المنهجية الخاصة بعالم الاثنيات.*

2 – هذه الأنماط تفرض نفسها بواسطة آليات عقلانية ( أجوبة متناسبة مع المحيط ومع الوضعيات الحياتية ) وليس عبر القوة الرمزية ( أي بفعل فئات اجتماعية مهيمنة في المجتمع ).

أما ” جون فرانسوا بايار ” فقد انتقد في كتابه ” الوهم الهوياتي ” (1996)19 مفهوم الثقافة السياسية واقترح استبدال تحليل الثقافات السياسية بدراسة الأسباب الثقافية للعمل السياسي “.

يرى ” برو” :

1 – انه لا وجود لمضامين ثقافية خاصة لأمة ما.

2 – أن الممارسات والقيم تتطور مع الزمن لذلك يجب عدم المغالاة بخصوص وزن المحددات الثقافية على سلوكيات الأفراد كما تفترض النظريات الثقافوية .

3 – ضرورة تنسيب علاقة الارتباط بين الثقافة السياسية والدمقرطة :

يشكك انصار المقاربة البنيوية في صدقية العلاقة المفترضة بين الثقافة المدنية والدمقرطة. ويميل هؤلاء الى اعتبار الاولى نتاجا لعملية الدمقرطة لا العكس.

اما الانتقاليون الذين يعتبرون الانتقال الى الديمقراطية يكون نتيجة لحسابات النخب المتصارعة التي تبدا بادراك المصلحة المشتركة في الدمقرطة، فقد كانوا أكثر حسما لجهة تجاهل الثقافة السياسية.

يمكن القول اذن انه اذا كانت الثقافة السياسية تشكل عاملا مهما قد يساهم في بروز الديمقراطية أو تطورها حسب الحالات، فان غيابها لا يمثل بالضرورة عائقا مانعا لها. لذا يجب التسليم بديمقراطية الممكن عوض اقبار مفهوم التحول الديمقراطي بذريعة غياب تلك الثقافة، غياب وظفته، ولازالت، انظمة الاستبداد(من ضمن ذرائع اخرى) لتابيد الاستبداد وانسداد الافق السياسي.
فقرة ثانية – التحديث: ” د.ليرنر” و” س. ايزنتات

Lerner (D), Pevsner (L), The Passing of tranditional society, New York, Free Press, 1958

Eisenstadt (S.N.), Social change, differenciation and evolution, American Sociological Review, n 29, juin 1964

ميز ” ليرنر”، كما استقر على ذلك علم الاجتماع، بين التقليد والحداثة وذلك بالتركيز على أن التحول من العلاقات الاقتصادية البسيطة والمحدودة للمجتمع التقليدي إلى المؤسسات الاقتصادية الجديدة والمعقدة للمجتمع الحديث يعتمد على تغيير مسبق في قيم وأعراف ومواقف الناس.

ويفترض مفهوم التحديث ( في علاقته بالديمقراطية ) تجاوز دوائر القيم التقليدية سواء كانت دينية أو ثقافية أو قومية مشوهة إلى أفاق دوائر القيم العصرية الغربية المنفتحة كما يؤكد ليرنر في كتابه ” تجاوز المجتمع التقليدي “.

و يعتبر ” ليرنر ” أن التحديث الاقتصادي والاجتماعي يعني القضاء على الأمية ورفع مستوى التعليم وانتشار وسائل الإعلام والاتصال والتمدين والتصنيع بما يساهم في اكتساب الناس نظرة جديدة أكثر تسامحا إزاء الآخرين ورفضا للمذاهب المتطرفة وانفتاحا على الشأن العام واهتماما بالنشاط السياسي ومختلف القضايا الاجتماعية والسياسية.

و تعتمد هذه المقاربة على مجموعة من المؤشرات أهمها معدل الدخل القومي الإجمالي ومستوى التمدين ( الانتقال من الريف إلى المدينة) ومستوى التصنيع والتعليم ومدى انتشار وسائل الإعلام…

و تساهم سرعة التقدم نحو التحديث باعتماد هذه المؤشرات في نمو طبقة وسطى عصرية تحل محل النخب التقليدية مثل ملاك الأراضي وشيوخ العشائر والمساجد والقادة المحليين ما يساهم في تحقيق فرص أفضل لإشباع حاجات مختلف الجماعات وفي حل مشكلات توزيع الدخل وفي دعم ثقافة التسامح والتعاون .

و يؤدي تجاوز الثقافة التقليدية السيئة والعدائية والمنغلقة والانخراط في منظومة الثقافة الغربية العصرية إلى تطور الاتجاهات الديمقراطية المنفتحة وتزايد احتمالات الحل السلمي للصراعات كما يؤكد كذلك ” كارنهاوزر ” في كتابه ” سياسات المجتمع الجماهيري ” .

إلا أن مقاربة التحديث التي دافع عنها ” ليرنر” وغيره من المفكرين لاقت انتقادات لاذعة .

1 – افتقادها للبعد التاريخي :

يعتبر ” روبرت دال ” في كتابه ” لابولياركية : المشاركة والمعارضة ” 1971 أن المقاربة التحديثية تفتقد إلى البعد التاريخي إذ يلاحظ أن الولايات المتحدة كانت في مستوى اقتصادي واجتماعي منخفض بمعيار الناتج الإجمالي المحلي ومن التمدين (غالبية السكان ريفيون ) عندما كتب”دو طوكفيل ” كتابه الشهير” الديمقراطية في أمريكا .”

2 – عيب الحتمية:

إن العلاقة المفترضة بين التحديث والدمقرطة لا تتحقق دوما. والهند من بين الأمثلة التي ترفض الخضوع للقانون “المطلق” لحتمية التحديث.

فبالرغم من تخلفها النسبي وارتفاع نسبة الأمية، فان ما يقارب الثلثين من الهنود البالغين سن التصويت يمارسون العملية الانتخابية . وتعتبر الهند من اكبر ديمقراطيات العالم التي تتعايش في إطارها ثقافات وأديان ومعتقدات تقليدية إلى جانب مظاهر التحديث .

كما شكك ” صامويل هانتنغتون ” خاصة في مقولة أن التحديث الاجتماعي والاقتصادي يعزز ثقافة سياسية واجتماعية حديثة وذلك في كتابه ” النظام السياسي في المجتمعات المتحولة ” الصادر سنة 1968 .

و يرى أن تقويض الهياكل التقليدية يقود إلى تصاعد الصراعات وتزايد حدتها .

ولا يحول التحديث حسب رأيه دون تطور الصراعات التقليدية بل يساهم في تفاقمها . فعندما يفرض التحديث من أعلى أو من الخارج تنتج عنه حالة من عدم اليقين والريبة أكثر من أي وقت مضى. وقد تنظر إليه قطاعات واسعة من المجتمع باعتباره تهديدا للهوية وما يرتبط بها من قيم وأنماط حياة.

و أشار ” هانتنغتون ” إلى الصعوبات الناشئة عن الاختلالات الممكنة بين التحديث الاقتصادي من جهة وبين معدلات التغيير الاجتماعي من جهة أخرى.

فالتغيرات الاجتماعية، التي تتمثل في الانتقال من الريف إلى المدينة وانتشار التعليم وتفاعل الناس مع وسائل الاتصال الحديثة، تتسم بالسرعة وتخلق مطالب وتوقعات اقتصادية.

و إذا عجز معدل النمو الاقتصادي، على فرض حصوله، عن مواكبة تلك التحولات الاجتماعية وتلبية تلك المطالب تحدث توترات وتصاب قطاعات من المجتمع بالاغتراب ما يشجع على نشوء بيئة للتطرف السياسي والديني وتزداد صعوبة تطور ثقافة سياسية واجتماعية حديثة.

3 – إن السؤال الذي نطرحه في علاقة بموضوع بحثنا هو التالي: كيف يمكن تفسير ” الرجة الثورية العربية” ( كما سماها “عبد الحي مودن” ) في ظل ما استقر في الدراسات الاستشراقية والاجتماعية الغربية والإسرائيلية من استثنائية عربية إسلامية؟
فقرة ثالثة – العلاقات بين التعددية والثورة الزراعية والتجارية: ” ب. مور “20 – ” ا.قرشنكرون” :

حاول ” بارنغتن مور ” من خلال دراسته ” الأصول الاجتماعية للاستبداد والديمقراطية ” تفسير اختلاف المسارات السياسية التي اتخذتها كل من انجلترا وفرنسا والولايات المتحدة (الديمقراطية الليبرالية ) عن المسار الذي اتبعته اليابان وألمانيا ( مسار الفاشية) وعن المسار الذي اتجهت إليه روسيا والصين ( الثورة الشيوعية ) خلال عملية التحول التاريخي التدريجي من مجتمعات زراعية إلى مجتمعات صناعية حديثة بين القرن السابع عشر ومنتصف القرن العشرين.

و اعتمدت مقاربة مور،لا على مبادرات النخب، وإنما على تفاعل أربع بنى متغيرة للقوة والسلطة هي الفلاحون، ملاك الأرض الارستقراطية،البرجوازية والدولة .

و استخلص ” مور ” ما يلي :

أولا أن مسار وشكل الديمقراطية الليبرالية كان بصفة عامة نتاجا لنمط مشترك من العلاقات المتغيرة بين الفلاحين وسادة الأرض والبرجوازية الحضرية والدولة.

و قد وضع ” مور ” خمسة شروط عامة للتنمية الديمقراطية :

1 – وجود حالة من التوازن تحول دون وجود دولة قوية أكثر من اللزوم ودون نمو طبقة ارستقراطية ذات استقلالية أكثر من اللزوم.

2 – التحول إلى شكل مناسب من الزراعة التجارية.

3 – إضعاف ارستقراطية الأرض .

4 – الحيلولة دون تحالف بين البرجوازية والارستقراطية في مواجهة تحالف العمال والفلاحين.

5 – انفكاك فوري عن الماضي بقيادة البرجوازية.

ثانيا وفي اتجاه مغاير ، لاحظ ” مور ” أن الفاشية برزت ضمن أوضاع كانت فيها البرجوازية الحضرية ضعيفة نسبيا واعتمدت على الطبقة الارستقراطية المهيمنة على الدولة لتمويل الزراعة التجارية .

ثالثا انتهى الى ان الثورات الشيوعية حصلت في أوضاع اتسمت بضعف البرجوازية الحضرية وخضوعها لهيمنة الدولة وضعف الارتباط بين سادة الأرض والفلاحين وفشل سادة الأرض في تحويل الزراعة إلى زراعة تجارية وتماسك الفلاحين وعثورهم على حلفاء ذوي مهارات تنظيمية.

و قد تعرضت أطروحة ” مور ” إلى النقد من زاويتين علي الأقل :

1 – إغفال دور العلاقات والتفاعلات الدولية وعبر القومية ومنها الحرب في تحديد مسار تطور البلدان.

2 – إهمال تأثيرات نمو الطبقة العاملة أو البروليتاريا الصناعية.

وقد ساهمت اجتهادات لاحقة في تلافي النقائص التي تكشفت في أطروحة ” مور “.

و قد توصل ” روشماير” وزملاؤه، من خلال تحليل تاريخي مقارن للبلدان الرأسمالية المتقدمة وبلدان أمريكا اللاتينية وأمريكا الوسطى وبلدان البحر الكاراييبي، إلى أن تحرك المجتمع تجاه الديمقراطية الليبرالية من عدمه يتشكل أساسا بتوازن القوة الطبقية وأن الصراع بين الطبقات المهيمنة والخاضعة حول حقها في الحكم يعتبر محددا أكثر من غيره في وضع الديمقراطية ضمن الأجندة التاريخية ويحدد مالاتها. 21

و تتمثل اهم استنتاجاتهم في النقاط التالية :

1 – أن التحالفات الطبقية في مختلف البلدان ساهمت في تدعيم الانتقال الديمقراطي أو عرقلته.

2 – تغيرات بنية وشكل قوة وسلطة الدولة عاملا حاسما في الدمقرطة إذ تعززت فرص نجاح الانتقال الديمقراطي في الحالات التي لم تكن فيها الدولة قوية جدا أو ضعيفة جدا في مواجهة القوى الطبقية في المجتمع.

3 – أن التنمية الرأسمالية أدت تاريخيا إلى بروز مجتمع مدني قوي وإلى بروز الأحزاب السياسية كقوة موازية لسلطة الدولة22

فالمسار التاريخي لأي بلد نحو الديمقراطية يتحدد أساسا بالبني المتغيرة للطبقة والدولة والقوى الدولية وعبر القومية وليس عن طريق مبادرات النخب، هذه المبادرات والخيارات لا يمكن تفسيرها إلا عبر القيود والفرص البنيوية المحيطة بها. وهذا ما حاولت المقاربة الانتقالية تجاوزه.
الشرطية الاقتصادية : ” سيمور ليبست ” :

Lipset(S.M), L’Homme et la Politique, Paris, Le Seuil, 1960.

يعتبر ” أدام سميث ” أول من عبر عن هذه الشرطية الاقتصادية في كتابه ” ثروة الأمم ” عندما أكد على أن الليبرالية السياسية شرط ضروري للأداء الفعال للسوق الذي يعتبر محرك النمو الاقتصادي وأن الحد الأدنى من الحكم يفضي إلى الحرية الفردية والمنافسة وإمكانات النمو الاقتصادي.

و لكن ” س.ليبست ” كان أكثر دقة في معالجته للعلاقة بين الديمقراطية والتنمية في مقالته المعنونة ” بعض الاشتراطات الاجتماعية للديمقراطية: التنمية الاقتصادية والشرعية السياسية” سنة 1959 وفي كتابه ” الرجل السياسي ” الذي نشر سنة 1960 .

و لتأكيد هذه العلاقة قام عالم الاجتماع الأمريكي بتصنيف البلدان الأوروبية والبلدان الناطقة بالانجليزية في أمريكا الشمالية وكندا إلى ديمقراطيات مستقرة وديمقراطيات غير مستقرة ودكتاتوريات.

كما صنف بلدان أمريكا اللاتينية إلى ديمقراطيات ودكتاتوريات مستقرة ودكتاتوريات غير مستقرة.

ثم قام بمقارنة هذه البلدان باعتماد مؤشرات محددة مثل الثروة ومستوى التصنيع ومستوى التعليم والتمدين.

و استخلص من خلال هذه المقارنات ما يلي:

1 – أن البلدان الأكثر ديمقراطية في المجموعتين كانت تتمتع أيضا بمستويات تنمية اجتماعية واقتصادية اعلي من البلدان غير الديمقراطية.

2 – وجود تطابق بين التنمية الاقتصادية وبين النظام الديمقراطي: هذا التطابق الذي يفترضه الباحث يعتمد على متغيرات اجتماعية. فالتنمية الاقتصادية ترتبط بازدياد وبروز طبقة متوسطة تتجه نحو مزيد المشاركة في الحياة السياسية وتساهم هذه التنمية في التخفيف من حدة التفاعلات السياسية وتخلق مصالح متقاطعة وانتماءات متعددة تعمل تسهيل بناء الإجماع الديمقراطي والاستقرار السياسي.

3 – أن التنمية الاقتصادية ترتبط بنمو وحيوية الحياة الترابطية والمجتمع المدني.

و رغم مجهودات ” ليبست ” فانه لم يتوصل إلى إثبات العلاقة السببية المفترضة بين التنمية الاقتصادية والديمقراطية.23 وقد سار بعض الباحثين في نفس اتجاه ” ليبست ” باعتماد تحليلات كمية وإحصائية دقيقة إلا أنها فشلت جميعها في إثبات تلك العلاقة السببية.

ومن بين هذه الاجتهادات نذكر ” كولمان ” 1960، ” كاترايت ” 1963 وخاصة ” بولن ” و” جاكمان ” 1985 اللذين اكتشفا من خلال تحليل إحصائي كمي أن التنمية الاقتصادية هي المحدد الأكثر أهمية من المتغيرات الأخرى مجتمعة ولكنها لم تثبت العلاقة السببية المفترضة بين التنمية الاقتصادية والديمقراطية.

كما قامت دراسات أخرى بمحاولة إثبات التأثير الايجابي للديمقراطية على التنمية الاقتصادية.

فقد افترض “غرو سمان ” و” نوح ” 1988 أن وجود نظام ديمقراطي يضمن خضوع الحاكمين للمساءلة أمام المحكومين مما يحفزهم على التصرف بكفاءة في الموارد لضمان استمرار يتهم في الحكم، وفي نفس الاتجاه تندرج محاولات ” دال ” 1971 ” و” اولسن ” 1991 و” بهالا ” 1994 الذي ربط بين التنمية الاقتصادية وبين الحرية بجانبيها السياسي والاقتصادي .

وقد تعرضت نظرية الشرطية الاقتصادية إلى انتقادات أهمها :

1 – عجز أصحابها عن إثبات العلاقة السببية بين التنمية الاقتصادية والديمقراطية رغم توظيف المنهج الاحصائي الكمي.

2 – وجود ديمقراطيات في ظل وضع متخلف نسبيا كما هو حال الهند مثلا

3 – تزامنها مع نظرية أخرى ظهرت في الستينات تعتبر أن الدمقرطة السياسية يمكن أن تكون حاجزا أمام التنمية الاقتصادية.

ويتضح من خلال هذا العرض الموجز لأهم المساهمات التي حاولت تفسير الانتقالات الديمقراطية باعتماد مقاربات كلية تاريخية أن هذه الاجتهادات تركزت أساسا على شروط بروز الديمقراطيات وقيامها وعلى استقرار الأنظمة السياسية.

وقد تعرضت هذه المقاربات بمجملها إلى انتقادات أهمها، فكرة الحتمية والغائية التي تسمها، وإهمال العامل السياسي، وعدم النفاذ إلى ظاهرة الانتقال الديمقراطي ذاته.

لقد اهتمت هذ المقاربات إذن بالإجابة عن سؤال لماذا يتم التغيير؟ ولم تحفل كثيرا بالسؤال الأهم في نظر الانتقاليين وهو كيف تتم عملية التغيير والانتقال من نظام يوصف بالاستبدادي إلى نظام آخر يفترض أن يكون ديمقراطيا؟

وبعد هذا العرض الموجز لأهم النظريات والفرضيات التي حاولت تفسير نشوء الديمقراطية أو تعذرها في مجتمع معين، يمكننا بسط الملاحظات السريعة التالية:

1 – ملاحظة أولى: تلتقي مختلف هذه النظريات رغم اختلافها في زاوية التناول وفي أسسها النظرية في السمات التالية24 :

1 – مركزية الدولة : تتحكم الدولة في صناعة التحول عبر إمساكها “بوتيرة التحديث وتطوير البنى الاقتصادية والاجتماعية وتوجيه المنظومة التعليمية والثقافية “. ويترتب على ما تقدم ما يلي :

1 – يلغي هذا الدور المحوري للدولة أي إسهام فاعل أو مبادرة حاسمة لغيرها من اللاعبين سواء تعلق الأمر بمجتمع مدني أو شعب أو نخب.

2 – لا تصلح هذه المقاربات لتفسير ” التغيير الثوري والسريع (..) الذي يحدث نتيجة حراك شعبي واسع كما حصل في بعض البلاد العربية مؤخرا”.

3 – لا يمكن مبدئيا تفسير هذا الحراك الشعبي الواسع – يقول الدكتور عبد المولى- باعتماد هذه المقاربات بل ” بمنهجية تحليلية جديدة تنطلق في رؤيتها لحركة التغيير السياسي والاجتماعي من تحت إلى فوق أو من أسفل القاعدة الاجتماعية إلى أعلاها”.

2 – الحتمية التاريخية والاتجاه الخطي في التغيير : لا يتحقق التحول الديمقراطي الا ” ضمن سياق حداثي نمطي يجعل حداثة المجتمعات الإنسانية، على تنوعها، لا تتحقق إلا بعبورها حتما من حيث عبرت المجتمعات الغربية، بما في ذلك المرور بمراحل التصنيع والتحديث التقني والعسكري والإداري. فلا يبقى أمام المجتمعات التي لا تنتمي للفضاء الغربي والتي اختلفت تجربتها الحضارية وسبيلها إلى الحداثة أن تنجز تحولا ديمقراطيا”.

3 – الخلفية الاستشراقية : تجتمع هذه المقاربات حول منظور يقوم على ” التفريق الجوهري بين المجتمعات، مستندة في ذلك إلى حكم قيمي يجعل من المجتمعات الغربية معيارا للفضل، ومن تجربتها التاريخية مقياسا لما سواها”. وقد ترتب على هذا المنظور الأحادي والمتمركز على الذات إنتاج مقولات من قبيل ” الاستثناء” العربي ” وما يعنيه ذلك من عجز مزمن وفشل محتوم في اللحاق بركب الأمم المتقدمة وبناء أنظمة ديمقراطية.”

لكن ” الربيع العربي” والحراك الشعبي الواسع والسريع تحدى هذه المقاربات واسقط مقولة ” الاستثناء” العربي.

2 – ملاحظة ثانية: تبدو النظريات أو الفرضيات المفسرة لنشوء الديمقراطية وكذا العوامل التي تفسر انهيارها أو تعذرها ” شذوذا أو استثناء ” كما يستنتج ” فالح عبد الجبار”25 .

فلا يمكن قيام ” ربيع عربي” لغياب أو لضعف ” الشروط المسبقة اللازمة (لظهور) الديمقراطية في العالم العربي.”

كما أن ” العوامل التي تفسر انهيار أو تعذر الديمقراطية كلها قائمة في العالم العربي.”

و اذا صح غياب العوامل أو الشروط التي تفسر ظهور الديمقراطية من جهة وتوفر الشروط المانعة لقيامها في العالم العربي التي بينا أعلاه، لن يبقى أمامنا – يقول “عبد الجبار”- سوى خيارين: توسيع تلك النظريات ” كي تشتمل على مفاهيم جديدة أي البحث عن توليد فرضيات جديدة تفسر ما يحصل في إطار نظرية الدمقرطة، أو نبذ تلك النظريات كلا أو بعضا.

ويوجز” ممدوح نيوف”26 القول حول الدراسات الغربية ( والعربية27 ) المتعلقة بالانتقالات الديمقراطية في الوطن العربي: ” يجب التأكيد على أن الدراسات حول الانتقالات الديمقراطية في العالم العربي ساهمت في تجذير هذا اليأس لجهة استحالة التغيير في هذه المنطقة من العالم”.

ونلاحظ في هذا الإطار أن كثيرا من الانتقاليين برروا إسقاط المنطقة العربية من مجال دراساتهم بغياب موضوع البحث (اي غياب التحول الديمقراطي). وهذا قول مردود عليهم كما يرى ” عبد المولى” ” ذلك أن الخلل المنهجي يكمن في الأطر النظرية التي تنطلق منها لمقاربة الموضوع وليس في ميدان البحث ذاته (..) وهذا يضرب في العمق موضوعية أي نتاج معرفي مهما ادعى من العلمية، ويطبع المقاربة كلها بطابع الانحياز لموقف قيمي بعينه(28 ).

الهامش

1 – Michel Camau « Globalisation démocratique et exception autoritaire arabe », Critique internationale 1/2006 (n° 30), p. 59-81.

2 د.الطاهر لبيب، مقدمة كتاب ” الربيع العربي… إلى أين؟ أفق جديد للتغيير الديمقراطي، مركز دراسات الوحدة العربية 2011.

3 – سنتعرض لاحقا إلى ثنائية استبداد- ديمقراطية

4 – Guillermo O ‘ Donnell, 1986, P6

5 – R.Banegas,Les Transitions démocratiques : mobilisations collectives et fluidité politique.

6 – Ana Saldanha, Révolution des Œillets : Transition sociopolitique et démocratisation au Portugal…

7 – Ozan O.Varol, the Military as the Guardian of Constitutional Democracy

8 – سنعرض لهذا المفهوم في الباب الثالث من هذا العمل

9 – د. محمد زاهي المغيربي، الديمقراطية و الاصلاح السياسي

10 – G. Hermet, Le passage à la démocratie, Paris, Presses de Sciences Politiques, 1996, pp. 13-14.

11 – Philippe C. Schmitter, Nicolas Guilhot, RFSP, Année 2000, vol 50 – N 4-5

12 – عن: ” علي خليفة الكواري”، مفهوم الديمقراطية المعاصرة، صحيفة الوسط البحرينية – العدد 2705 – الإثنين 01 فبراير 2010، ص 1

13 – د. عصمت سيف الدولة، الطريق، ج 2، ص 93

14 – الكواري، مرجع سابق

15 – Philipe C. Schmitter and Terry Lynn Karl, What Democracy Is… And Is Not, Journal of Democracy, Vol.2, No.3, Summer 1991

15- Dahl1989: 1 – 9

16 – Almond (G), Verba(S), The Civic culture. Princeton Univ.Press, 1963

17 – Bertrand Badie, Culture et Politique (collection politique comparée)

18 – Philippe Braud, Sociologie politique, 10e édition, LGDJ, 2011

19 – Jean-François Bayart, L’illusion identitaire, Paris, Fayard, 1996

20 – Moore(B), Les Origines sociales de la dictature et de la démocratie, Paris Maspero, 1969

21 –Capitalist Development and Democracy (University of Chicago Press, 1992, co-authored with E. H. Stephens and J. D. Stephen),p 47

22 – ” بوتر” و ” آل “، 1997، ص 21 .

23– DIAMOND L. and MARKS G., « Seymour Martin Lipset and the Study of Democracy », in DIAMOND L. and MARKS G., (eds)., Re-examining Democracy Essays in Honor of Seymour Martin Lipset, London, Sage Publications, 1992., p 451

24 – د. عزالدين عبد المولى، الانتقال الديمقراطي في العالم العربي أضواء على التجربة التونسية في الانتقال الديمقراطي، ص 3.

25 – فالح عبد الجبار، الديمقراطية و الربيع العربي، مقاربة بنيوية تاريخية، مؤتمر وهران أكتوبر 2013.

26 – Nayouf Mamdouh, La transition démocratique dans le monde arabe, Aout2011.

27 – يمكن أن نذكر من بين الدراسات العربية: ” شارل عيساوي” حول غياب الأسس الاقتصادية و الاجتماعية للديمقراطية في العالم العربي.

كما يمكن الإشارة إلى بعض التجارب العربية التي وصفت بكونها تجارب انتقالية لكن في صورة انتقال بالإكراه.

إن مثل هذه الافتراضات آو النظريات الغربية، و التي تلقفتها بعض نخبنا و عملت على نشرها دون تمحيص، كانت تؤسس و تبرر لتأبيد التخلف و الاستبداد و لتجذير مقولة استحالة التغيير في العالم العربي.

28 الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة