لماذا تستمر احتجاجات الثورة الصفراء؟!

محرر الرأي13 يناير 2019آخر تحديث :
لماذا تستمر احتجاجات الثورة الصفراء؟!

لماذا تستمر احتجاجات الثورة الصفراء

  • أعلن البنك المركزي الفرنسي تراجع نمو الاقتصاد في الربع الأخير من العام الماضي بمعدل النصف (من 0.4 إلى 0.2) بالمئة.
  • ترفض الحكومة رغم موجات الاحتجاج الأخيرة إعادة فرض ضريبة الملكية على الأغنياء.
  • تمثل حركة السترات الصفراء اختبارًا قويًا لتيار الوسط الديمقراطي، ومدى شعبيته في الأوساط الفرنسية.
  • إذا كان الحافز الآني لتلك التظاهرات ضريبة الوقود وضعف القوة الشرائية، لماذا يستمر الفرنسيون في التظاهر بقوة بعد حزمة الإجراءات المقدمة من الحكومة؟

 

بقلم: سناء البنا

مثلت احتجاجات الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الماضي قمة الغضب الشعبي تجاه سياسات الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، والتي امتدّت منذ اجتماع مليون توقيع لعريضة احتجاج ضد ارتفاع أسعار البنزين، ثم سرعان ما زادت دعوات الاحتجاج وحشود المتظاهرين على مدار نوفمبر/ تشرين الثاني وديسمبر/ كانون الأول الماضيين، فيما عُرف بحركة السترات الصفراء.

وراهن محللون وسياسيون كثيرون في فرنسا على تراجع التظاهرات بعد الخطاب الذي أعلن فيه الرئيس ماكرون حزمة من السياسات الاجتماعية والاقتصادية، مفادها تخفيف العبء على الأسر الفقيرة ومتوسطي الدخل، بجانب إلغاء الضريبة المقرّرة على البنزين.

وكانت خطوة ضرورية قبيل إجازات نهاية العام، كي لا تسبب التظاهرات في أزمة اقتصادية يتوقعها الخبراء مع إعلان البنك المركزي الفرنسي تراجع نمو الاقتصاد في الربع الأخير من العام الماضي بمعدل النصف (من 0.4 إلى 0.2).

لكن ما إن انتهت إجازات العام، حتى عادت التظاهرات أيام السبت، لتحشد مؤخرًا قرابة 50 ألف متظاهر في باريس، اقتحم بعضهم مبنى الحكومة الوزاري وأخلوه.

بينما تظهر استطلاعات الرأي تراجعًا في تأييد المواطنين حزمة الإجراءات من نحو نصف المشاركين إلى 40% فقط، وعودة التأييد الشعبي لتظاهرات “السترات الصفراء” إلى نحو ثلثي المواطنين، رغم تركيز الإعلام الفرنسي على تراجع التظاهرات، وخفوت حدة المشاركين.

الأمر الذي استدعى مقاطعة المتظاهرين كثيرا من مراسلي القنوات الفرنسية، جراء تغطياتهم التي تخفف عدوان الشرطة ضد المتظاهرين، بينما تبرز أعمال العنف والتخريب.

ويبقى تساؤل: إذا كان الحافز الآني لتلك التظاهرات ضريبة الوقود وضعف القوة الشرائية، لماذا يستمر الفرنسيون في التظاهر بقوة بعد حزمة الإجراءات المقدمة من الحكومة؟

أسست الجمهورية الخامسة في فرنسا في عهد الرئيس السابق شارل ديغول، في 1958، بناء على حزمة من الحقوق والواجبات التي أقرّها وأعلنها الدستور الفرنسي ونظام الحكم عقوداً متوالية، أبرز معالمها الموازنة بين نيوليبرالية السوق الحر واشتراكية القطاع العام لتخصص للمواطن الفرنسي حقوق الصحة والتعليم والبنية التحتية، لقاء نظام ضمن أعلى معدلات ضرائب الدخول في العالم.

مع تسارع عمليات التصنيع والعولمة، تم إخلال مؤسسات كثيرة بهذا التعاقد الضمني، بدءًا من نقل الشركات متعددة الجنسيات فرص العمل إلى بلدان آسيا وأفريقيا، حيث الأجور والضرائب أقل، وقوانين العمل تحابي أصحاب رؤوس الأموال.

وتكاد لا تفرض التزامات (تأمينات وتعويضات وخلافه)، مرورًا بعمليات التصنيع والميكنة التي حجّمت سوق العمل، وقوانين الانفتاح التجاري التي تسببت في تضاؤل تنافسية المنتج المحلي، وصولاً إلى سياسات التقشف التي أعقبت الأزمة المالية عام 2008.

وأدت إلى تصاعد الاحتجاجات الشعبية طوال العقد الماضي، وصعود مضطرد لليمين المتطرف إلى سدة الحكم في بلدان عديدة، أبرزها الولايات المتحدة الأميركية وإيطاليا وأخيرًا البرازيل، بالإضافة إلى دول أوروبية عديدة.

لكن فاتورة سياسات التقشف في فرنسا كانت أثقل مما تتحمّله فئات الدخول المتوسطة والدنيا، فرغم أن متوسط الدخل السنوي في فرنسا أعلى من المتوسط الأوروبي بنسبة قليلة، إلا أن فجوة الدخول بين أغنى وأفقر 20% من المواطنين تصل إلى نحو خمسة أضعاف، بينما متوسط معدل النمو السنوي للاقتصاد نحو 1.8%، ومعدلات البطالة تتراوح بين 9% و11% منذ 2013.

فإذا اجتمعت تلك المؤشرات مع معطيات سياسات التقشف، والتي أبرزها ارتفاع ضرائب الدخول وتراجع المعاشات والخدمات العامة، كان متوقعًا أن يثور غضب الشارع الفرنسي، خصوصًا مع اتساع الشرائح التي يتوفر لها في نهاية الشهر، بعد خصم الضرائب، نحو 1700 يورو فقط، معظمها ينفق في إيجارات المساكن والصحة.

إزاء تلك المعطيات، تأتي حزمة السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي قدّمها الرئيس ماكرون في خطابه التلفزيوني، والتي شملت رفع الحد الأدنى للأجور بنحو 100 يورو وإلغاء ضرائب الدخول على ساعات العمل الإضافية، وإصلاح نظام التأمينات ضد البطالة وقوانين الخدمة العامة والمعاشات، مواتية للمناخ الاقتصادي العام، حيث حازت تأييد نصف المشاركين في استطلاعات الرأي.

لكن تبقى حقيقة انخفاض القوة الشرائية لقطاعات واسعة من المواطنين أهم العقبات التي لا تتناولها الإصلاحات، كما أن الإصلاحات المزمعة لا تزال في إطار برنامج نيوليبرالي يحابي الأغنياء، بحسب ما يصف المواطنون الرئيس الفرنسي.

فهذه الإجراءات إنما جاءت تالية لخصم على ضرائب الشركات من نحو 33% إلى 25%، وخصم نحو 3.2 مليارات يورو أو 3.6 مليارلت يورو من الضرائب المفروضة على أملاك أغنى المواطنين الذين تزيد قيمة أملاكهم عن 1,300,000 يورو.

وهو الخصم الذي أدّت إلى ضعف واردات الحكومة من الضرائب ومحاولات الأخيرة فرض ضريبة عامة على البنزين، بدعوى تقليل الاستهلاك، بينما ترفض الحكومة، حتى في ظل موجات الاحتجاج الأخيرة، إعادة فرض ضريبة الملكية على الأغنياء.

السبب الآخر وراء استمرار المظاهرات هو التغيير الذي أدخلته الحكومة في قانون العمل الفرنسي، والذي سمح لأصحاب العمل بتسهيلات كبيرة في تعيين الموظفين وفصلهم من خلال مفاوضات مباشرة معهم، من دون وساطة اتحادات العمال والموظفين، وهي التعديلات التي لا تتناولها الإصلاحات.

بينما تسببت في زلزال كبير في استقرار العمل لأكثر الفئات تصويتًا للرئيس الفرنسي، أصحاب “الياقات البيضاء”، أو الموظفين ذوي المؤهلات العليا، والذين انضموا إلى فئات العمال في الاحتجاجات أخيرًا!

الأمر الذي يثير تساؤلاتٍ كثيرة بشأن مستقبل تيار الوسط الفرنسي، إذ يبدو أن الساحة الشعبية أكثر ميلاً إلى الخطاب اليميني المتطرّف، وآليات الديمقراطية المباشرة والاستفتاءات، وكلها مستجداتٌ لا تتناولها إصلاحات ماكرون، ولا تظهر بوادر تفهمها من حكومته الحالية.

وتمثل حركة السترات الصفراء اختبارًا قويًا لتيار الوسط الديمقراطي، ومدى شعبيته في الأوساط الفرنسية، خصوصاً بعدما حاز ممثله في السباق الرئاسي ماكرون على أغلبية 66% من الأصوات. كما تمثل تهديدًا مباشرًا لطموحات ماكرون في قيادة الاتحاد الأوروبي، خصوصًا مع اقتراب موعد الانتخابات فيه.

وبينما تعلو أصوات الناقدين للحركة، كونها تجمع مختلف الأطياف السياسية والأيديولوجية من أقصي اليمين إلى أقصى اليسار، فإن ارتفاع شعبية اليمين المتطرّف، وسعي قيادات حركة الجبهة الوطنية، تحديدًا ماري لوبان التي حازت نحو 34% من الأصوات عام 2017، لركوب موجة الاحتجاجات، والتشكيك في مصداقية الإصلاحات المقترحة، يضعان الوسط الديمقراطي في أزمة ثقة حقيقية.

يحتاج فيها ماكرون ما بين ثمانية وعشرة مليارات يورو، لإثبات جدارته وأحقية الحكومة الحالية أمام المحتجين، وهي أموال سيضطر لاقتطاعها بمزيد من الضرائب على الأغنياء.

لكن الخطاب الحالي لا يوحي بأن هناك نية جادة في هذا الاتجاه، ما يفتح الباب واسعًا أمام عودة التنافس السياسي بين اليسار، ممثلاً في جين لوك ميلينشون الذي حاز على 19% من الأصوات عام 2017، واليمين المتطرّف، مع اختلاف سياساتها تجاه رؤوس الأموال والمهاجرين وقوانين العمل.

* سناء البنا كاتبة وباحثة مصرية في الاجتماع السياسي

 

المصدر: العربي الجديد – لندن

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

اكتب ملاحظة صغيرة عن التعليقات المنشورة على موقعك (يمكنك إخفاء هذه الملاحظة من إعدادات التعليقات)
    الاخبار العاجلة