علم الأعصاب والاقتصاد

محرر الرأي24 فبراير 2019آخر تحديث :
علم الأعصاب والاقتصاد

علم الأعصاب والاقتصاد

كيف نحقّق التفوق والتنافسية، والعالم يلعب بعقولنا ويجعلنا نقبل ما لا يجوز قبوله من أفكارٍ سياسية، وسلع ضارة، وخدمات غير ضرورية.

الناس لا يتصرّفون دائما برشاد اقتصادي افترضه اقتصاديون كلاسيكيون ويمكن جذب الناس نحو قراراتٍ غير راشدةٍ في الشراء والاستثمار.

ثلاثة اقتصاديين فازوا بجائزة نوبل أدخلوا بحوثا تحليلية سلوكية ونتائج مستقاة من علم الأعصاب إلى النماذج الاقتصادية.

اكتشف علماء الأعصاب أن الدماغ يعمل أحياناً بإحدى مناطقه وأعمق ساعات النوم بمعزل عن المؤثرات الخارجية.

بقلم: جواد العناني


يقدّم العدد الخاص (الأول) لمجلة “هارفرد بيزنس ريڤيو” خلاصةً لتطور العلاقة بين علم الأعصاب (neuroscience) والإدارة واتخاذ القرار وتحفيز التجديد والابتكار.

وتذهب المجلة المُوَجّهة إلى نخبة المختصين في الأعمال، لتناقش موضوعاتٍ ذات أهمية كبرى، مثل علم الأعصاب والتسويق، ووسائل التواصل عبر فهم العمليات الدماغية، ويشرحون الذي يجري في دماغ المفاوض، وهو منهمكٌ في المساومة على صفقة مالية.

ولا شك أن هذا العلم الجديد يستفيد من التطورات الهائلة التي جرت في علم الأعصاب، وتشريح وفسيولوجية الدماغ، ومتابعة نشاطه ليلاً نهاراً، ودراسة مناطقه المختلفة بوظائفها المختلفة.

وهو يستفيد كذلك من القفزات الكبيرة في عالم تكنولوجيا المعلومات، ووسائل تحليلها، والاستفادة من نتائجها، بدءاً من التأثير على الانتخابات، وانتهاء بإقناع المستهلكين بشراء سلع وخدمات معينة.

وقد استوقفني قبل أكثر من خمسة وأربعين عاماً كتاب لمؤلف بريطاني من أصول مالطية، اسمه إدوارد دي بونو، وكان عنوانه “آلية عمل العقل “The Mechanism of the Mind” الصادر عام 1969.

اقرأ/ي أيضا: أي العملات أفضل من حيث الاستثمار؟

ووضع لنا هذا العالم النفسي التحليلي، وجرّاح الدماغ الشهير، النماذج لعمل العقل، لكنه ركّز، بالدرجة الأساسية، على ردود فعل الإنسان على المؤثّرات الخارجية وأسلوب تفاعله معها وسلوكه حيالها.

وقبل ذلك، شاهدنا مثلاً أكثر من إنتاج سينمائي لقصة ريشارد كوندون بعنوان “المرشح المنشوري”. لكن الكتاب بني أصلاً على تقرير عن نشاط وكالة الاستخبارات الأميركية (سي.آي.إيه) في مجال السيطرة على العقول.

ويستخدم هذا الأسلوب في القصة من أجل إبراز شخصٍ ما ليصبح رئيساً لجمهورية الولايات المتحدة، عن طريق إقناع زملائه في الحرب الكورية بأنه بطل حرب، وأنه المدافع عنهم، والمتسبّب في هروبهم من سجنٍ في كوريا الشمالية، علماً أن كل هذا السيناريو فبركةٌ وتلاعبٌ بالعقول.

اقرأ/ي أيضا: «المؤرخ» ضاحي خلفان يندد باحتلال المسلمين للأندلس!

وقبل ذلك، نشرت الروائية الإنجليزية ماري شيلي، زوجة الشاعر البريطاني بيرسي شيلي، قصتها عن الدكتور فرانكنشتاين الذي يسعى إلى خلق إنسان كامل، له جسد مصارع وعقل عالم.

لكن المقالات الجديدة والبحوث الملخصة، في العدد الأول من مجلة هارفارد بيزنس ريفيو، تأخذك إلى آفاقٍ أبعد، فنحن نعلم أن ثلاثة من الاقتصاديين فازوا بجائزة نوبل في القرن الحادي والعشرين، على بحوثهم فيما يُسمى “الاقتصاد السلوكي” وهم:

دانيال كاينمان (2002)، روبرت شيلر (2013)، وأخيراً ريتشارد ثالر (2017). وقد أدخلوا البحوث التحليلية السلوكية والنتائج الأساسية المستقاة من علم الأعصاب إلى النماذج الاقتصادية.

اقرأ/ي أيضا: خفايا الحملة الصليببية لترامب

وقد وصل ريتشارد ثالر إلى نتائج مثيرة، من أهمها أن الناس لا يتصرّفون دائما بالرشاد الاقتصادي الذي افترضه الاقتصاديون الكلاسيكيون، وأن بالإمكان جذب الناس نحو خياراتٍ غير راشدةٍ في الشراء أو في الاستثمار.

أما مجلة “هارفارد بيزنس ريڤيو”، فتقود البحث الجديد إلى آفاقٍ جديدة، فمثلا، اكتشف علماء الأعصاب أن الدماغ يعمل أحياناً في إحدى مناطقه، وفي أعمق ساعات النوم في معزل عن المؤثرات الخارجية.

اقرأ/ي أيضا: الأنظمة العربية «تفخّخ» المجتمعات وتنشر «العدمية» و«الإحباط»!

وفي هذه الساعات، يبدأ الدماغ في تحليل المعرفة التي يخزّنها داخلياً وحده بعيداً عما تجلبه الحواس الخارجية من معلومات. وهذه الشبكة التي تسمىDefault Network، يبدأ الدماغ بتحويل ما تخزّن لديه من معرفةٍ إلى إبداعاتٍ وأفكارٍ جديدة، ليست لها علاقة بفترات الصحوة وساعات العمل. وبمعنى آخر، يعمل الدماغ وحده مستقلاً لينتج أفكاراً جديدة.

اكتشاف هذه الحقيقة عن عملية الدماغ فتحت الأفق واسعاً على آلية استثمار العقل، وتحفيزه لكي يبدع ويجدّد. ويجعل هذا التطور العلمي الناتج عن تمازج المعارف والتخصصات بالإمكان منح بعض الدول ميزاتٍ نسبيةً في عالم التجارة الدولية، لم تكن لتحققها بدون استثمار علم الأعصاب في دفع عجلة التجديد والتفوق.

اقرأ/ي أيضا: في وداع الردع.. لماذا يتجه العالم للحرب بدلا من تفاديها؟

وبالطبع، هنالك التطبيق الهائل لهذه التطورات، بسبب الاستفادة من المعلومات الشخصية والاستهلاكية عن مليارات المتعاملين بوسائل نظم الاتصالات والمعلومات الحديثة وشبكاتها وغماماتها وبنوك معلوماتها.

وقد تبيّن أن استخدام هذه المعلومات ساهم في تحقيق الفوز للمرشح دونالد ترامب، لأنه عرف القضايا التي تهم الناخب واللغة التي تؤثر عليه عندما يتناولها هذا المرشح. وهنالك مؤسساتٌ تشتري المعلومات وتحللها، ليس لأغراضٍ سياسيةٍ فحسب، بل ولأغراض تسويقية تجارية.

اقرأ/ي أيضا:الشيعة العرب: المواطنة والهوية

وها نحن نشهد كيف استطاعت شركات الدعاية والترويج في جعل الإعلانات التي تبث في أثناء إقامة المباريات النهائية في بطولة كرة القدم الأميركية، أو كرة السلة، أو لعبة القاعدة (البيسبول)، وكأس العالم في كرة القدم، وغيرها، أكثر إثارة وتشويقاً من المباريات نفسها.

ويقال إن 60% من مشاهدي مباراة كرة القدم الأميركية النهائية للعام 2018 كانوا متشوّقين لرؤية الإعلانات التجارية أكثر من شوقهم لمشاهدة المباراة. وفي عبارة أخرى، صار الإعلان عن الإعلانات بحد ذاته فناً جديداً.
أين نحن العرب من هذا العلم؟

اقرأ/ي أيضا: عدنان الأسد جاسوسا لإسرائيل.. كيف أخفى “قصر حافظ” الفضيحة؟

هذا سؤالٌ يستحق منا أن نتوقف عنده، علماً أننا أحوج ما نكون إليه للدفاع عن سمعتنا ومواقفنا؟ وأين نحن من تحفيز الإبداع والابتكار؟ وأين نحن من التسويق والتشويق؟

وكيف سنحقّق التفوق والتنافسية، والعالم يلعب بعقولنا كيف يشاء، ويجعلنا نقبل ما لا يجوز قبوله من أفكارٍ سياسية، وسلع ضارة، وخدمات غير ضرورية.

  • د. جواد العناني خبير اقتصادي، نائب رئيس الوزراء ورئيس الديوان الملكي الأردني سابقا.
    المصدر: العربي الجديد – لندن
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

اكتب ملاحظة صغيرة عن التعليقات المنشورة على موقعك (يمكنك إخفاء هذه الملاحظة من إعدادات التعليقات)
    الاخبار العاجلة