دراسة نقدية “شعرية الإبدال والتحول ” فى قصيدة سجدة

الشاعر ع4 فبراير 2019آخر تحديث :
دراسة نقدية "" شعرية الإبدال والتحول " فى قصيدة سجدة

” شعرية الإبدال والتحول ”
دراسة نقدية في قصيدة سجدة للشاعر محمود حسن

أ.د / خضير درويش
أستاذ النقد والأدب الحديث كلية التربية والعلوم الإنسانية جامعة كربلاء .. العراق

” سجدة “
يا منْ كانتْ عِنْدَ حدودِ الغيبِ سحابةْ
تخْبِزُ كلَّ صباحٍ لملائكةِ اللَّهِ رغيفاً
من نورٍ أَزَلِيْ
ثمَّ تعودُ بفاكهةٍ
لا تعرفها إلَّا سَيَّدُةُ المحرابِ …
وخبزٍ لا يعرفُهُ إلَّايَ إليْ
أو عسلٍ جاء به هدهدُ سيِّدنا من جبلٍ يمنِيْ
تحمل روحي في كَفَّيْها
فتباركَها في كلِّ سماءٍ مأهولةْ
تفْتَحُ صدري
تغسِلَهُ
بحليبٍ رَبَّانِيْ
كنتُ أسافرُ في عينيكِ وَمِنْ
كَفَّيْكِ إلى حيثُ أبي يلقي الدرسَ كعادَتِهِ
والمنبرُ من خشبٍ قُدُسِيْ
والسُّلَّمُ ياقوتٌ وزبرجَدْ
والصوتُ كدعوةِ إِبْرَاهِيمَ مهيبٌ ونقِيْ
أيَّةُ شيطانةِ شعرٍ أغْوَتكِ فرُحتِ إلى أرضٍ ليس بها خبزٌ نبوِيْ
وتلبَّسكِ الكبْرُ وأغواكِ الَّلاشَيْ
هلْ كانتْ سجدةُ آدَمَ من أتلفَ هذا
الخطَّ الفارقَ بينَ يقينِكِ والغَيْ
أَمْ يا قِبْلةَ خمرِ الوهمِ المُتَعتِّقِ من
أوَّلِ سجدَةْ
مَسَّكِ عندَ سقوطِ التُّفَّاحةِ جِنِّىْ
كنتِ غطاءً شتويّاً
أتَدَثَّرُ فيهِ يُزَمِّلُني
عِنْدَ الرَّجفَةِ والوَحْشَةْ
حينَ فقدتُ يَقيني
حينَ اختلفتْ أضلاعي
واسْتَوْحَشْتُ الآيةَ أنهَكَني الخيطُ المفقودُ
الّلامرئِيْ
جئتِ إليَّ وفي يُمناكِ يقينُ نَبِيْ
كيفُ أصدِّقُ بِاللّهِ عَلَيْكِ
كيفَ أُفَسِّرُ هذا الجبلَ الجاثمَ فَوْقَ الصَّدْرِ
الناتِئَ من رِئَتَيْ
كيفَ تَبَدَّلَ شايُكِ ماءَ النَّارِ على شَفَتَيْ
كيفَ تَمَدَّدَ وجْهُكِ في عينِي شبحاً
يحملُ حربةَ وَحْشِيْ
ويُفَتِّشُ عن كَبِدي كيْ يُطْعِمَهُ ..
هندَ ابنةَ عُتْبَةَ لكن …
ما كُنْتِ أسيرةَ هندٍ يوما
ما كانَ أبوكِ بَغِيْ
إنِّي نَصَّبْتُكِ أيقونةَ شِعْرِي
وَرَوِيَّهْ
صُوَرَهْ
وخَيالاتِهْ
رمزاً لا يعرِفهُ إلَّا من يعْرُجُ في مكنون …
الياقوتِ المُتَخَفِّي بين سطوري
والكلماتِ البَيْنِيَّةْ
يا امرأة نورانيةْ
كيفَ تَعَثَّرَ خيْلُكِ في المعراجِ العُلْوِيْ
كيفَ تشابهَ في عيْنَيْكِ قيامُ الليلِ
وكأسٌ عاقَرَهُ كلَّ مساءٍ كائنُكُ الليْلِيْ

اقرأ/ى أيضا:حكايات لطيفة تبدأ الخميس 7 فبراير

بدءاً أقول إن القصيدة ارتكزت على أساس من المستوى الزماني بميقاتيه الماضي والحاضر، وبحدود هذه المسافة الزمنية ذهب الشاعر ليشكل موضوع قصيدته على وفق رؤيته الشعرية ، وموضوع القصيدة هو استحالة العلاقات الإنسانية وتغيرها إلى غير ما كانت عليه ، فيصبح الإنسان في ذلك على غير ماأمسى ، وهو أمر مؤلم للإنسان قبله شاعراً ، وأوقع عندما يكونه ، وعندما تكون امرأة .
في هذه القصيدة يفتتح الشاعر خطابه الذي يوجهه إلى المرأة التي يبغي بأداة النداء ( يا ) ثم يأتي بالفعل الماضي الناقص ( كان ) الذي يقرنه بتاء التأنيث الدالة عليها ، ثم يذهب إلى المستوى المكاني لتحديد مكان وجودها ، ويعمد بعد ذلك إلى التشبيه الذي أراد ليكمل بذلك رسم صورته التشبيهية إذ يقول: يامن كانت عند حدود الغيم سحابة .
لا بد من الإشارة هنا إلى أن الشاعر قد ابتدأ برسم صورة هذه المرأة على وفق ما كانت عليه ، فهي صورة الماضي لينتقل بعد إتمامها إلى الصورة المقابلة صورة ، الحاضر المختلفة ، لقد حرص على أن يتقن رسم الصورة الماضية ، ويلونها بأجمل ألوانه بأن شبهها بالسحابة الماطرة في فضاء غير محدود ، ثم ذهب إلى أنسنة السحابة بالتشكيل الاستعاري ليخلع عليها فعل المؤدى الإنساني متمثلاً بالجملة الفعلية ( تخبزُ ) بفاعلها المستتر الذي يعود عليها ، ثم يذهب الشاعر لتحديد ميقات هذا العمل فيختار له وقت الصباح ، وفي هذا دلالة الحيوية والنشاط والإنسانية ونكران الذات فأرغفتها ليست لها ، وما يلفت النظر هنا هو التشكيل الإنزياحي الذي اعتمده الشاعر حين جعل المادة التي تصنع منها أرغفتها ( النور الأزلي ) وليس الطحين.
إن ذهاب الشاعر إلى هذا التشكيل الاستعاري التجريدي وإقرانه بتلك المرأة على المستوى الإجرائي إنما قصد من ورائه الارتقاء بشخصها والتسامي بذاتها .
ثم يذهب الشاعر على نفس الاتجاه ليرسم لها صورة أخرى فيقول: / ثم تعود / بفاكهة / لم تعرفها إلا أم يسوع / لا تعرفها إلا سيدة المحراب /.
لقد اعتمد الشاعر في هذا التشكيل الشعري التوظيف القرآني ، فقد تناص مع قول البارئ جل وعلا مما جاء في الآية السابعة والثلاثين من سورة آل عمران ” كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ” } آل عمران:37 { إن هذه الفاكهة مختلفة فهي ليست كالفاكهة المألوفة ، وكأنها مما كان ينزل على سيدتنا مريم العذراء.

اقرأ/ى أيضا:تدهور ايرادات السينما الأمريكية وفيلم “جلاس” فى المقدمة

ثم يذهب الشاعر ليضع ذاته موضعها المناسب بوصفه الرجل الذي يوجه خطابه هذا إلى تلك المرأة التي يعني فيقول: / وخبزٍ لا يعرفهُ إلايَ إلي/ أو عسلٍ جاء به هدهدُ سيدنا من جيلٍ يمني/ في هذا أراد الشاعر أن يرسم صورة تلك العلاقة القوية التي جمعت بينه وبين تلك المرأة ، إذ جعل الخبز الذي تأتي به مقترنا به ، فهو فقط الذي يعرف بذلك الخبز ونوعه ولا أحد سواه ، وهذا الخبز بدلالته التي تمناها الشاعر إنما يشي بتفرد علاقته مع تلك المرأة . ثم يعود في التشكيل الشعري اللاحق الى التوظيف القرآني بتناصه مع قصة سيدنا سليمان عليه السلام مع الهدهد ليؤكد لنا أن العسل الذي جاءت به إليه هو عسل ليس كالعسل المألوف بدلالة وجود الهدهد بقدرته الإلهية ، فهي إذن كانت ليس ككل النساء لذا فهو قد سلمها روحه إذ يقول: تحملُ روحي في كفيها / تفتحُ صدري/ تغسلهُ / بحليبٍ رباني/.
ثم يعمد إلى الأسلوب الالتفاتي ليتحول من خطاب الغيبة إلى خطاب الحضور، وبدافع من الجانب النفسي يذهب إلى استخصارها ليكون الكلام مباشراً فيقول: كنتُ أسافرُ في عينيكِ وَمِنْ / كَفَّيْكِ إلى حيثُ أبي يلقي الدرسَ كعادَتِهِ / والمنبرُ من خشبٍ قُدُسِيْ / والسُّلَّمُ ياقوتٌ وزبرجَدْ / والصوتُ كدعوةِ إِبْرَاهِيمَ مهيبٌ ونقِيْ/.
هنا يرسم الشاعر صورة التأثير الكبير الذي تركته تلك المرأة في نفسه ووجدانه ، فيذهب مبتدئاً ليحدد مكان ذلك التأثير وحجمه على وفق تصوره الشعري ، فيكون عينيها وكفيها ، فهو قد أحال عينيها بهذا التشكيل الاستعاري طريق سفرٍ أو مدينة انطلاق لسفره الشعري أما كفاها فكانا مكان انطلاقه ، فهو إذن متوزع ما بين عينيها وكفيها ، وفي هذا إشارة سمو تلك العلاقة وقوتها ، وما يعزز هذا تحديده جهة السفر المقصودة التي تتبدى لنا ليس كأي وجهة أخرى ، إنها أبوه بصفتيه: صفة الأبوة والصفة الدينية ، لذا يسترسل في رسم صورته وصورة مكانه المعتاد وهو يلقي دروسه الدينية في الوعظ والتوجيه بذلك الصوت المهيب النقي.
بعد هذا ينتقل الشاعر إلى رسم الصورة الجديدة لتلك المرأة ، وهي صورة المقابلة الضدية فيبتدئ قوله بمخاطبتها: أيَّةُ شيطانةِ شعرٍ أغْوَتكِ فرُحتِ إلى أرضٍ ليس بها خبزٌ نبوِيْ / وتلبَّسكِ الكبْرُ وأغواكِ الَّلاشَي / هلْ كانتْ سجدةُ آدَمَ من أتلفَ هذا / الخطَّ الفارقَ بينَ يقينِكِ والغَيْ / أَمْ يا قِبْلةَ خمرِ الوهمِ المُتَعتِّقِ من / أوَّلِ سجدَةْ / مَسَّكِ عندَ سقوطِ التُّفَّاحةِ جِنِّىْ/.
في هذا التشكيل الشعري يعتمد الشاعر نوعين من التوظيف: أحدهما التوظيف الأدبي والأخر التوظيف القرآني ، ففي ما يخص التوظيف الأدبي يتمثل في التصور الذي يردُّ قول الشعر على ألسنة الشعراء بخروجه عما هو مألوف من الكلام إلى الشياطين ، فقرنوا بذلك كل شاعر بشيطانه خارج حدود الإلهام ومؤاتاة اللحظة الشعرية التي تتدفق فيها شاعرية الشاعر، وهذه هي اللحظات الإبداعية التي بموافاتها يتشكل الشعر في ذهن الشاعر، وهو التصور الذي ذهب إليه المحدثون بهذا الخصوص .
أما التوظيف القرآني فيتمثل بتناص الشاعر مع قول الباري جلّ وعلا “والشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ }” 224 الشعراء {فهو يذهب ليرد حاله تغير تلك المرأة وتبدل موقفها إلى التأثير الشعري بقدرته العجيبة التي تصل إلى القدرة السحرية ، وهنا نستحضر قول الرسول الكريم محمد ( ص ):” إنَّ من البيان لسحرا ” إذ يتساوى فعل الكلام وفعل السحر في القدرة التأثيرية على الإنسان فيقع الكلام البليغ موقع السحر على النفس الإنسانية ، فيتغير حال الإنسان بتغير سلوكه ومواقفه ، ولابد من القول: إن الشاعرية المتوهجة المقترنة بالانفعال الوجداني للشاعر هي من يسَّر له أن ينحو بهذا التشكيل الشعري هذا النحو الموفق في رسم هذه الصورة المتحولة للمرأة ، فكأنها انتقلت من الهدى إلى الضلال ومن المقدس إلى المدنس فهي قد ذهبت كما يقول: (إلى أرضٍ ليس بها خبزٌ نبوي ) .
وبقوله: / هل كانت سجدةُ آدم من أتلف هذا / الخط الفارق بين يقينك والغي/. يذهب إلى توظيف قرآني آخر يتمثل في قصة سيدنا آدم عليه السلام مع أمنا حواء في قوله تعالى “:وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزَّمَا ” } ه١١ طه } وفي هذا التشكيل الشعري يعمد الشاعر إلى الأسلوب الاستفهامي فيبتدئ قوله بأداة الاستفهام ( هل ) فهو في موضع الاستفسار عن أسباب تغيرها ، وهو هنا يتشبه بسيدنا آدم في ما يرى بعض المفسرين من أن حواء هي من أغرت آدم في أكل التفاحة ، وسجدة آدم هنا تتضمن على المستوى الدلالي إشارة رمزية تشي بالاستجابة وربما الخضوع ، ويبدو أن الشاعر كان على هذا معها ، وهذا في رأيه ماجعلها تتمرد فتضل ، وهو ماتأتى بتشكيله الاستعاري التجريدي بقوله: هل كانت سجدةُ آدم من أتلف هذا / الخط الفارق بين يقينك والغي/.

لذا أنسن الشاعر سجدة آدم ليخلع عليها فعل إمحاء ذلك الخط الذي تشكل شعريا في ذهن الشاعر، وهو ماكان يبتغي به التفريق بين يقين تلك المرأة وغيها ، وهذا ما جعله يستعمل أسلوب التضاد ، فجاء بمفردتي (اليقين والغي ) ليكون ذلك الخط فاصلا بينهما ولكنه امَّحى بتأثير سجدة آدم .
والشاعر في هذا التشكيل يعتمد التشبيه أساساً ، وهو تشبيه مؤكد حذف فيه أداة الشبه ليؤكد بذلك دلالة القول الشعري بمستواه الإجرائي المتشكل ذهنيا ًعلى أساس من المستوى الزمني بميقاته الشتوي فهو يقول:/ كنتِ غطاءً شتوياً / أتدثرُ فيه يزملني /عند الرجفةِ والوحشةْ /.
هكذا إذن كانت تلك المرأة ، ويبدو أنها لم تكن كذلك فحسب لذا يذهب الشاعر ليضيف لها ما يجعلها أبهى وأرقى إذ يقول: حينَ فقدتُ يَقيني/ حينَ اختلفتْ أضلاعي/ واسْتَوْحَشْتُ الآيةَ أنهَكَني الخيطُ المفقودُ / الّلامرئِيْ / جئتِ إليَّ وفي يُمناكِ يقينُ نَبِيْ/.

اقرأ/ى أيضا:حفل توزيع جوائز الغرامى ” اسماء المرشحين لة وموعدة”

في هذه التشكيلات الشعرية يرسم الشاعر صورتين متقابلتين على أساس ضدي تمثل الأولى صورة ذاته ضائعاً ضعيفاً ، وتمثل الثانية صورتها قويةً مُعنيةً استحالت هادياً واستحال مهدياً ، هكذا كانت هي في صورتها الماضية لكن تغير صورتها المفاجئ أدهشه وأصابه بالذهول ، لذا فهو يخاطبها بقوله : كيفُ أصدِّقُ بِاللّهِ عَلَيْكِ / كيفَ أُفَسِّرُ هذا الجبلَ الجاثمَ فَوْقَ الصَّدْرِ/ الناتِئَ من رِئَتَيْ / كيفَ تَبَدَّلَ شايُكِ ماءَ النَّارِ على شَفَتَيْ /.
لذا فهو يعمد إلى أداة الاستفهام ( كيف ) التي يكررها عدة مرات في أول كل سطر شعري دلالة الاندهاش الذي أفضي به إلى عدم تصديق ما يحصل ، فيذهب إلى رسم تأثير ذلك فيه على المستوى النفسي بقوله: كيفُ أصدِّقُ بِاللّهِ عَلَيْكِ / كيفَ أُفَسِّرُ هذا الجبلَ الجاثمَ فَوْقَ الصَّدْرِ/ الناتِئَ من رِئَتَيْ /.
هنا يعمد الشاعر إلى الأسلوب الكنائي في تشكيله الشعري هذا إذ ساوى بين ثقل تغيرها ووقعه على نفسه وبين ثقل الجبل ، ويذهب ليرسم صورة تغيرها بتشكيل حسي ذوفي مستعملاً الأسلوب الكنائي أيضا إذ يقول: كيفَ تَبَدَّلَ شايُكِ ماءَ النَّارِ على شَفَتَيْ/. وهي صورة تحولية أحال فيها الشاعر الشاي وهو دلالة صورتها الماضية ( ماء النار) وهذا دلالة صورتها الحاضرة فصورتها الماضية تساوي الشاي في متعته ، وصورتها الحاضرة تساوي ماء النار في حرارته .

اقرأ/ى أيضا:أم كلثوم ” ملف جديد “رحلة العطاء التى مازالت تنبض بالحياة

ويتجه الشاعر صوب التاريخ ليوظفه أشخاصاً ووقائع في رسم صورة جديدة أخرى لها فيقول: كيفَ تَبَدَّلَ شايُكِ ماءَ النَّارِ على شَفَتَيْ / كيفَ تَمَدَّدَ وجْهُكِ في عينِي شبحاً / يحملُ حربةَ وَحْشِيْ / ويُفَتِّشُ عن كَبِدي كيْ يُطْعِمَهُ/ هندَ ابنةَ عُتْبَةَ لكن / .
وهنا يعود الشاعر إلى الاستفهام بصيغته الإنكارية ليرسم صورة استحالة أخرى معتمداً الجزء مُمثلاً للكل ، فوجهها هنا مُمثلٌ لكلِّها.
لقد استحال ذلك الوجه ببشاشته شبحاً ، ولم يكتفِ الشاعر بهذا بل ذهب لتجسيده ليخلع عليه فعلاً إنسانياً حين جعله حاملاً لحربة وحشي، وهو توظيف تاريخي لهذه الشخصية بموقفها السلبي ، فوحشي هذا هو قاتل الحمزة بن عبدالمطلب في يوم أحد ، ويستكمل تشكيله الشعري بقوله: ويُفَتِّشُ عن كَبِدي كيْ يُطْعِمَهُ / هندَ ابنةَ عُتْبَةَ لكن/.
وفي هذا توظيف لشخصية هند بنت عتبة زوج أبي سفيان بن حرب والقصة التي تقول إنها كانت وراء مقتل الحمزة ، فهي من دفعت وحشي إلى ذلك لييسر انتقامها بقتل الحمزة وأكلها كبده ، هذه هي صورة المرأة الجديدة ليماثلها بــ ( وحشي ) و( هند ) في الموقف الانتقامي ، ويزداد استغراب الشاعر حين لا يرى من يحثها على فعل ما فعلت كما جاء فعل ( وحشي ) بدافع من ( هند ) لذا يخاطبها قائلا: ما كُنْتِ أسيرةَ هندٍ يوما / ما كانَ أبوكِ بَغِيْ/.
وفي هذا يعتمد التوظيف القرآني متناصاً مع قول الله تعالى:” يَا أُخْتَ هَارُونَ
مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا” }28 مريم { .
والملاحظ هنا أن الشاعر اعتمد الإبدال اللفظي فنسب البغي إلى الأب بدلاً من الأم ، فخرج عن استعماله المألوف في القرآن الكريم، فهو للإحاطة يقول لها لم يكن أبوك ظالماً ، فمن أين أتيتِ بظلمك لي ، وحين يقترب الشاعر من ختام قصيدته يذهب وبمرد من العامل النفسي الذي جعله يشعر بمزيد من الأسى لرسم صورة ذاته بوفائها وحسن صنيعها مع تلك المرأة الناكرة فيقول: إنِّي نَصَّبْتُكِ أيقونةَ شِعْرِي/ وَرَوِيَّهْ / صُوَرَهْ / وخَيالاتِهْ / رمزاً لا يعرِفهُ إلَّا من يعْرُجُ في مكنون / الياقوتِ المُتَخَفِّي بين سطوري / والكلماتِ البَيْنِيَّةْ.

اقرأ/ى أيضا:سهير رمزى وشهيرة بعد خلع الحجاب ” هل من صفقات أخرى”؟!!!

الصورة أدبية فنية استندت على أساس من المستوى النفسي ، فذات الشاعر مساوية لشعره ، وليس من السهل التفريق بينهما ، فهو عندما يقول لها( إني نصّبتُكِ أيقونة شعري ) فهذا يعني انه أدخلها مساحة ذاته ، لذا فقد أحالها أيقونة شعره لتكون رمز ذاته وصورتها المثلى ، وهذا ما يتأكد في قوله لاحقا: وروَيهْ ، صورَهْ ، وخيالاتِهْ ، ذلك أن الشاعر لم يكتفِ بما هو عام أو كلي لفظ ( الشعر) وإنما ذهب إلى التجزئة والتفصيل ليرتقي بالصورة على المستوى الدلالي ، لذا يخاطبها وهو يختم قصيدته بقوله : يا امرأة نورانيةْ / كيفَ تَعَثَّرَ خيْلُكِ في المعراجِ العُلْوِيْ / كيفَ تشابهَ في عيْنَيْكِ قيامُ الليلِ / وكأسٌ عاقَرَهُ كلَّ مساءٍ كائنُكُ الليْلِيْ/.
هذا ما كانت عليه في صورتها الماضية الذي الح على الشاعر فاطره في أن يستحضرها ليسألها مستفسراً ومعاتباً في تشكيلين شعريين يبدؤهما بأداة الاستفهام كيف فيقول في الأول:كيفَ تَعَثَّرَ خيْلُكِ في المعراجِ العلوي/.

اقرأ/ى أيضا:فوز فيلم”روما” بجائزة جليد الأمريكية

لقد جاء الشاعر بلفظي ( الخيل ) و( المعراج ) ليكونا متسقين مع تلك المرأة التي كانت نورانية ، ولكنه حين جاء بالفعل ( تعثَّرَ) انتقل بوساطته إلى صورتها الجديدة بدلالة خيلها المتعثر الذي حدد الشاعر مساحته على المستوى المكاني في المعراج العلوي دلالة الارتقاء والسمو ، لذا أتبع تلك الصورة صورة أخرى يبتدئ تشكيلها بأداة الاستفهام نفسها بقوله: كيفَ تشابهَ في عيْنَيْكِ قيامُ الليلِ / وكأسٌ عاقَرَهُ كلَّ مساءٍ كائنُكُ الليْلِيْ /.
لقد وصل الشاعر إلى ختام قصيدته وما يزال متسائلاً ومندهشاً ، لذا يذهب إلى تشكيل هذا برسم صورتين شعريتين متضادتين: تمثل الأولى صورتها الماضية وتمثل الثانية صورتها الحاضرة ، فهو يعجب من استحالتها إلى ذاتين في ذات واحدة وصورتين في صورة واحدة ، صورة قيام الليل دلالة التعبد والنقاء وهي صورتها الماضية ، وصورة الكأس دلالة الفسق والمروق ، وهي صورتها الحاضرة .

وفي الختام أقول: لقد كان للأسلوب الحواري الذي أتقن تشكيله الشاعر فضلاً عن اعتماده موسيقى البحر المتدارك بانسيابية تفعيلاته التي جاءت متَّسقةً مع الأسلوب الحواري وميسِّرةً تشكيلاتِه الشعرية وللتقفية التي أحسن الشاعر تشكُّلها الأثر الفاعل في الارتقاء بالمستوى الفني للقصيدة شكلاً ومضموناً.

أضغط هنا لتطالع أهم الأأخبار الثقافية والفنية فى العالم العربى والغربى تقدمها لكم صحيفة الساعة25

 

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

اكتب ملاحظة صغيرة عن التعليقات المنشورة على موقعك (يمكنك إخفاء هذه الملاحظة من إعدادات التعليقات)
    الاخبار العاجلة