جمعية أصدقاء الفيل

محرر الرأي22 يوليو 2018آخر تحديث :
جمعية أصدقاء الفيل

الرجل الفضولي أو المدقق هو اسم قصة روسية تحكي عن زائر لمتحف يستمتع بالتدقيق في أصغر معروضاته وأدق تفاصيله. يسهب الرجل في وصف كل قطعة صغيرة بدقة يحسد عليها، إلا أنه لا يفلح رغم ذلك في أن يلحظ فيلا ضخما كان يتوسط مقتنيات المتحف.

من المؤكد أن صاحب القصة الكاتب والشاعر الروسي أيفان أندريفيتش كريلوف الذي ولد في عام ١٧٦٩ وتوفي عام ١٨٤٤، لم يكن يتوقع أن تتحول قصته إلى تعبير عميق المغزى يتجاوز زمنه وزمن قصصه ويتسلل إلى لغات بخلاف الروسية. تناول التعبير فيما بعد عدد من الكتاب مثل فيودور دستوييفسكي الذي وصف أحد شخوص روايته “الشياطين” بأنه “مثل رجل كريلوف المدقق الذي لم يلحظ الفيل في المتحف”.

في اللغة الإنجليزية يتطور المثل أو المصطلح عبر استخدامه بتنويعات مختلفة من قبل كتاب مثل مارك توين وغيره حتى يستقر على عبارة “الفيل الموجود في الغرفة” أو The elephant in the room لتصبح مثلا يشير إلى أية مشكلة أو موضوع خلافي يبدو واضحا (وضوح فيل في غرفة) في حين يتعمد الجميع تجاهله وعدم الإشارة إليه.

تخيل أن اجتماعا عقد لمجلس إدارة مصنع ما بغرض بحث أسباب تدهور الحال فيه. الكل يعلم أن السبب هو فساد وفشل وعدم كفاءة رئيس مجلس الإدارة. لكن الحاضرين يتحدثون عن تكاسل العمال، أو تدني أخلاقهم، أو عن حدة المنافسة، أو عن الطقس. عن أي شيء إلا ذلك الفيل الضخم المنتصب في وسط الغرفة: الفشل.
يراه الجميع ويعلمون أنه حاضر لكنهم لا ينبسون ببنت شفة. ينطبق المثل في هذه الحالة التي لن تعدم من يميل في هذا الاجتماع على جاره ليهمس في أذنه قائلا: It is the elephant in the room
“إنه الفيل الموجود في الغرفة”. يعرف الاثنان عما يتحدثان لكنهما لا يصرحان به جهرة.

في حالتنا حدثت تطورات نوعية عديدة في حديقة نعيش فيها ولا نرى أيا من حيواناتها. ربما بدأ الأمر بفيل واحد يعرفه الجميع ويتجاهلون وجوده، بعدها بدأ في التمدد والتضخم والانتشار والتماهي مع الوطن، ثم انتحل حصانة سحبها من الأرض ومن يعيشون عليها، وبها ورث الأرض ذاتها وما في باطنها وما عليها ومن عليها.

الإشارة إلى الفيل باسمه لها عواقب وخيمة يعرفها من واتته الجرأة على ذلك. والكائن المنتصب في وسط الغرفة يسعده أن يتحدث الكل خيفة وهمسا عن سطوته وجبروته، لأن هذا يدفعهم أكثر فأكثر إلى تجاهله كلما تزايدت الحاجة لفهم طبيعته ودوره.

الفيل ليس ضخما فحسب ولكنه يتكاثر. يتحول إلى قطيع من الأفيال متباينة الأشكال والأحجام. ولأن الغرفة ضيقة ضيق وطن على أهله فالعين لا تخطيء القطيع ولكن اللسان يحجم عن ذكره أو الحديث عنه. فحتى لو أتاك حديث الفيل في مقال أو برنامج أو مانشيت صحيفة فهناك جمعية أصدقاء الفيل. وهي الجمعية المنوطة بتذكير المخطيء بخطئه، أو بتأنيب رئيس التحرير، أو برفع قضية على كاتب، أو بفرم أعداد صحيفة تجرأت وذكرت فيلا من الأفيال في عنوانها الرئيسي ليتم إجبارها على استبدال العنوان بآخر يتحدث عن الطقس أو الإعصار أو الطوفان أو الاكتساح لكنه لا يذكر الفيل.

يحيرني أمر هذا الفيل الذي أتهم كذبا في بعض الأحيان بأنني أكتب عنه، رغم عدم ذكري لاسمه. وما هذه السطور إلا مناقشة للعبارات والأمثال المتواترة حوله، دون أن يكون فيها إقرار بوجوده أو إنكار لكينونته. وسواء أكان هناك من يعتقد بوجود فيل في الغرفة أو الوطن أو علبة توفيق الدقن (في فيلم طاقية الإخفاء)، أحب أن أؤكد أن كتاباتي تخلو منه تماما، وأن السابقة واللاحقة منها بإذن الله “مفيهاش فيل”.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة