النسوية تخطف الأمومة

محرر الرأي24 مارس 2019آخر تحديث :
النسوية تخطف الأمومة

النسوية تخطف الأمومة

  • لا تُبْنى العائلة، ولا الحياة، على أسس “نظرية”، حتى لو لم تكن مختصرة، حتى لو بلغت أدق تفاصيلها.
  • اعتُبِرت الأمومة وظيفةً بيولوجية من صميم المجال الداخلي، احتُقِرَت، صارت عملاً مثيراً للقرف والغضب والهوان.
  • بفعل ما يجري يبرز في إنسان آخر، هو الأب الذي يتولى مهمات الأمومة.
  • الثورة النسوية تختلف عن نظيراتها بأنها “سلمية”، وتشبهها بضحاياها الجانبِيين.

بقلم: دلال البزري

شارفتْ راغدة على السبعين من العمر. حقّقت كل ما كانت تتمنّاه بنات جيلها وطبقتها، بعدما اندمجن بقوة بتلك الموجة العارمة التي اجتاحت المنطقة في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته. كانت واحدةً من اليساريات النسويات البارزات. ناضلت في صفوف الاثنين، اليسار والنسوية.

ولم يمنعها هذا، بل حفزها على تحصيل شهاداتٍ عليا، وبلوغ أعلى المواقع في إحدى المؤسسات الإحصائية. لكنها في الوقت نفسه أسّست عائلةً، وأنجبت صبيا واحدا.

اقرأ/ي أيضا: خفايا المجزرة الطائفية في نيوزيلندا هل هو حادث أم هجوم أم مجزرة؟

حتى الآن، يمكن النظر إلى راغدة بصفتها امرأةً من الجيل السابق، نجحت بإعطاء نموذجٍ مشجّع لبنات الجيل اللاحق.. إلى ما هنالك من كلام جميل. لكن راغدة فيها سوسة نائمة، تستيقظ كلما تلتقي بأمٍّ مع أولادها الصغار، فتعود وتتنهَّد عميقا، لتقول الكلام نفسه:

“لم يتسنَ لي أن أفرح بأمومتي. أحسد هذه المرأة. انظري كم من السعادة تشعّ من وجْنتيها، تفيض. مرح وفرح ولعب، مرّوا عليّ مرور الكرام. لم أتذوّق كل هذا، لم أستمتع به، كما يمكن أن تستمتع أم بأطفالها.

بل عندما رغبتُ بالمزيد، كنتُ اشتغل على أطروحة الدكتوراة، فأجّلتها، ريثما أنتهي. كان الوقت يقطّعني تقطيعاً بين مهمات الأمومة والمنزل، قليلة الشأن، والمهمات “النبيلة” من عمل سياسي وتعلّم، ومن بعده الترقي المهني. انتبهي أيضاً: وقتها رجالنا، رفاقنا، وهؤلاء الذين تقاسمنا معهم الأفكار، لم يتنازلوا أونصة واحدة عن امتيازاتهم، وتكريس وقتهم للخارج وللأعمال الجليلة.

اقرأ/ي أيضا: مجزرة المسجدين.. الغرب وتحدي الإرهاب اليميني

هكذا أكلني الوقت، انتصرَ عليّ. وعندما انتبهتُ إلى ما لحقني من تقطيع، كان الأوان قد فات. والآن أَنظر إلى تلك السعادة التي كان يمكن أن تملأني أنا وابني، في اللعب والضحك والاكتشاف.. وإلى ابنةٍ كان يمكن أن أنجبها، ولا نبقى وحيدَين.

كأنها سعادة انخطفت مني، ليس بأيدي أعداء، أو حرب، إنما بيدي أنا… بالأفكار التي حرّكتني طوال فترة صباي وشبابي. أزعل، ولا شيء يرضيني. كان يمكن لأحفادي أن يتيحوا لي فرصة السعادة. ولكن أين هم؟ في الاغتراب.. أراهم في المواسم..”.

أعرف راغدة جيداً. سبقتني في الجامعة بكم سنة. لكنني رافقتها بعد ذلك عن كثب. وهي، بتكرار ملاحظتها الشقية هذه، أعطت الحياة لفكرة تتقاسمها بنات جيلنا، بدرجاتٍ مختلفة، خصوصاً اللواتي انخرطنَ في الأنشطة النسوية واليسارية في آن.

اقرأ/ي أيضا: خفايا الحملة الصليببية لترامب

وراغدة لا تفعل سوى فتح جروح، اعتقدناها ملتئمةً من زمان. جروح الوعي بشعور دفين بالذنب تجاه أولادنا وتجاه أنفسنا؛ من أننا لم ننكبّ على أمومتنا، إلا كمهمات شبه أوتوماتيكية. ونقيضها تلك الأمومة السعيدة، المرتوية بقدرتها على إعطاء الحياة، المتسلية بها، المتفاعلة معها بأكثف ما تكون عليه المشاعر.

والسبب؟

سياق أفكارنا، أو بالأحرى سياق الأفكار التي وصلت إلينا، في ذاك الجو المفْعم بالجديد، بالثوري، بالمغري. والنسوية كانت يومها قد بلغتنا من روافد عديدة، لكن الهيكل الفكري لكل هذه الروافد كان يتكوّن من نبذين حميمَين: نبذ المجال الداخلي وتعظيم المجال الخارجي.

اقرأ/ي أيضا: انتبهوا ياعرب .. جوجل بيد الكيان الصهيونى

النبذ الأول هو المجال الذي لزمته النساء طوال ألفيات خضوعهن. وهو مجالٌ على النساء ازدراؤه، وهجرته؛ ثم الخروج إلى المجال الخارجي، حيث الأشياء العظيمة يجب ان تُفعَل، مثل العمل والتعليم والسياسة.

النبذ الثاني يختص بالوظائف، بالأدوار: بين الدور “البيولوجي”، والدور العام، السياسي، أو الاجتماعي. باعتبار الأمومة وظيفةً بيولوجية، وهي من صميم المجال الداخلي، احتُقِرَت، صارت عملاً مثيراً للقرف والغضب والهوان.

وصارت كلما حملت المرأة، تراجعت في مجالها الخارجي، ووظيفتها الجديدة، وتوقفت “مسيرتها”، إلى ما هنالك من أدبياتٍ امتلأت بها صفحاتنا في تلك الأيام.

اقرأ/ي أيضا: الحلم الأمريكي بين الواقع و الخيال

طبعاً، الأساس “النظري” لتقسيم كهذا وصَل إلينا عن طريق كتاب سيمون دي بوفوار “الجنس الآخر”، الكلاسيكي؛ وفي هذا الكتاب كلام صريح جداً، قاس جداً (الآن نرى القساوة).

فيه تعرّف دي بوفوار الأمومة أنها “حاجز بوجه التطلّع الإنساني نحو التسامي”. وتصفها بـ”الضارة”، حتى لو كانت مرغوبة، “لأنها تفرض على النساء التخلّي عن سيادتهن، عن حريتهن”.

وهي تضع شروطاً على الإنجاب الصحيح: “بأن تكون حياة المرأة لها معنى”. وتختم بأن الأم لا يمكن أن تكون حقّة “إلا اذا حاولت ان تلعب دوراً في الحياة الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية”.

اقرأ/ي أيضا: مسلمو الغرب.. الطريق لإسقاط أبارتهايد القتل

قد تعترض نسوياتٌ على صحة هذا المنظور. وقد يكن على حق، إذا أردنَ إدخالنا في تفاصيل النظرية، وخيوطها الدقيقة، وإشراقاتها. لتستنتِجنَ أن تلك النسوية القديمة، تلك الموجة من النسوية لم تُفهم جيدا من جمهورها.

وأن هذا الجمهور استعجلها، وراح يطبّقها يميناً شمالاً، لعلّه يبني بذلك المجتمع المثالي المرغوب؛ تماماً كما حصل مع اليساريين، في ظل تلك الموجة: كمْ شعار، وكمْ نظرية مختصرة.. وهلمّوا إلى حرب التحرير الشعبية التي ستقيم مجتمع الحرية والمساواة .. إلخ.

يعني بكلام آخر: فهمنا النسوية والشيوعية “غلط”. ولو فهمناها “صحْ”، كان يمكن أن نصل إلى السبعين من العمر ونحن سعداء..

اقرأ/ي أيضا: لمواجهة “إرهاب” الرجل الأبيض

والمهم في هذا العبث أننا دفعنا ثمنه، بعدما خضنا تجربته الغريبة. ولا نستطيع أن نعود إلى أعمارنا المبكّرة لنكرّر التجربة على أساس فهمنا الأعمق للنظرية. والتجربة تشي بخلاصة مهمة: لا تُبْنى العائلة، ولا الحياة، على أسس “نظرية”، حتى لو لم تكن مختصرة، حتى لو بلغت أدق تفاصيلها.

والحق ليس كله على سيمون دي بوفوار، إنما الثورات هي دائماً هكذا. والثورة النسوية تختلف عن نظيراتها بأنها “سلمية”، وتشبهها بضحاياها الجانبِيين. ليس ما تسْفكه بالضرورة دماً، أو تدميرا للبيوت. فنيرانها ليست رصاصية؛ بل اضطرابات وجروح روحية، معنوية.

اقرأ/ي أيضا: أبعد من ترامب والاقتصاد

لكن أيضاً مخاضاً هائلاً، يبرز فيه إنسان آخر، هو الأب الذي يتولى مهمات الأمومة: الأب الجديد، الحاضن، العذب، يجرّ العرَبة، يغير الحفاضات، يناغش، يدنْدن، يعانق.. هذا ما يخفّف عن صديقتي راغدة، ويجعلها تشرد بعيداً عن عواطفها.

* دلال البزري كاتبة وباحثة لبنانية.

المصدر: العربي الجديد – لندن

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

اكتب ملاحظة صغيرة عن التعليقات المنشورة على موقعك (يمكنك إخفاء هذه الملاحظة من إعدادات التعليقات)
    الاخبار العاجلة