المسيحيون ومسألة الحقوق

الساعة 2513 ديسمبر 2018آخر تحديث :
المسيحيون ومسألة الحقوق

المسيحيون ومسألة الحقوق

بقلم: نجيب جورج عوض

خطير جداً المنحى الصدامي الطائفي الذي بدأ الموقف المسيحي السياسي يأخذه في المشهد اللبناني. وخطورته ومحاذيره يمكن أن تمتد، بمفاعيلها وتأثيراتها، لتقع على كل مسيحيي المشرق في منطقةٍ تتمزّق كل يوم أكثر فأكثر، بفعل النزاعات الطائفية والصراعات السياسية والاستراتيجية الكبرى، وتنحدر بسرعة نحو هاويةٍ عدميةٍ مقيتةٍ ستفني الجميع إن طالت أكثر.

أكتب هذه السطور صرخة تحذير للمعنيين بالشأن المسيحي في لبنان، وبلدان المشرق كافة، لأنَّ الهوس المسعور في أوساط المسيحية السياسية اللبنانية بمسألة المطالبة بالحقوق بإعلاء الصوت الطائفي، وشد العصب التصادمي الديني النافي للآخر، ما هو إلا هوس انتحاري وتدميري ذاتوي بامتياز.

ولكن، ما المعيب وما الخطأ في أن تنادي المسيحية السياسية بحقوقها وتطالب بها وتناضل للحصول عليها بالوسائل كافة؟ أليس من حق المسيحيين أن يتمتعوا بحقوقهم أسوةً بباقي الجماعات الأخرى؟ لا شيء معيب في البحث عن الحقوق والمطالبة بها، لا بل إن السيد المسيح نفسه علم المسحيين قائلاً “تعرفون الحق والحق يحرّركم”. ولكن المسألة الخطيرة تكمن في الإجابة على

السؤال: عن أي حقّ نتحدّث هنا، وما معنى الحقوق في الفكر المسيحي؟

هنا لب المسألة وبيت القصيد. في علم اللاهوت المسيحي، التاريخي والعقائدي على حد سواء، “الحق” يعني كل ما من شأنه أن يقدّم للإنسان كرامته البشرية وطبيعته التي خلقه الله فيها ككائن حيّ، عاقل، حر، ويعكس في وجوده الخير والحقيقة والجمال. بمفردات سياسية – سوسيولوجية، الحق في الفكر المسيحي هو كل ما يتعلق بحقوق الإنسان المدنية والمواطنية التي تضمن كرامته وإنسانيته وحريته، وتوجّه سلوكه الأخلاقي نحو قيم الخير والحقيقة والجمال في علاقته مع الآخرين في المجتمع.

هذه هي الحقوق التي تنادي بها المسيحية، لأجل أي مجموعٍ بشري حضاري أو ثقافي أو ديني أو إثني أو جندري أو بيئي جاء منه البشر. تناهض هذه الحقوق بطبيعتها الخطابات التصنيفية والعنصرية والإقصائية والتشرذمية والتشكيكية والتضادّية
بين البشر، وتدعوهم جميعأً لتمثل قيم عامة ناظمة لحياتهم المدنية أو المواطنية معاً في كيان مجتمعي أو دولتي أو حضاري أو جغرافي واحد.

قاعدة هذا المفهوم للحقوق أن المسيحية بطبيعتها ليست كياناً طائفياً أو دينياً، بل هي موقفٌ إيمانيٌّ وجوديٌّ من الإنسان والعالم، مركزه هو الإنسان في إنسانيته المجرّدة من كل التعاريف والهويات الضيقة. هذا ليس مجرد تفكير لاهوتي. هذا فكر قاعدي ناظم، تقوم عليه كل منظومة القيم المسيحية الأخلاقية.

لو كان ما تدعو إليه المسيحية السياسية في لبنان هو هذا المفهوم المسيحي الأصيل لفكرة الحقوق، لكان في دعوتها رسالة نبيلة وجوهرية الإنسان في المشرق العربي بأشد الحاجة لها، لنجاته من الدمار ولحمايتها من الفناء. ولكن، ما تدعو إليه المسيحية السياسية في لبنان باسم “حقوق المسيحيين” هو “حقٌّ في المشاركة في السلطة”، “حقٌّ في مشروع إدارة الدولة والتمتع بمغانمها”، “حقٌّ في صنع القرار السلطوي والتحاصصي”، “حقٌّ في الحصول على نصيب مساوٍ لنصيب اللاعبين الآخرين في مكاسب الحكم”.

هذا منطقٌ يفرض على المسيحية منطق “دين ودولة” هي براء منه، ولا تتمثله. بالمعنى المسيحي، هذه ليست حقوقاً، بل هي نفيٌ للحقوق المدنية والمواطنية واختزالها بصراعٍ للفوز باليد الطولى في سياق سياسي، لطالما دعت المسيحية إلى فصل التديّن والموقف الديني عنه.

تتوهم المسيحية السياسية في لبنان أن صراعها من أجل الفوز بحصةٍ معادلة في لعبة السلطة سيضمن نجاة المسيحيين في المشرق، ويؤمن لهم مساحة وجودٍ وعيشٍ آمنةٍ وقويةٍ، تدفعهم إلى البقاء في المشرق، وعدم مغادرته. ولكن لعبة التحاصص في السلطة في المشرق العربي محكومةٌ بطبيعتها بواقع التشرذم الطائفي والديني.

وحين نبدأ بتقسيم المجموع البشري إلى مكوّناته الطائفية والدينية، تصبح مسألة الحقوق خاضعةً لمقياس الحضور العددي وشبكة العلاقات وحجم الإمكانيات التعبوية والصدامية (وربما العسكرية أحياناً) التي يملكها كل كيانٍ طائفي، ويستخدمها لفرض إرادته. المسيحيون في المشرق هم الأقل عدداً وإمكانات على الصعد كافة.

تجييش الشارع المسيحي بشد العصب الطائفي واختزال الحقوق بمسألة الحصول على نصيبٍ في السلطة والنفوذ سيقابله تجييشٌ طائفيٌّ مضادٌ للإسلام السياسي أقدر على لعبه، لأنه أكثر خبرةً وتجربةً وتمرّساً فيه، وهو يمتلك علاقاتٍ وإمكاناتٍ تجييشية وصدامية هائلة، بحكم انتمائه لفضاء ديني وطائفي إسلاموي (سني وشيعي) أوسع بكثير من الشارع المسيحي الذي يعرِّف نفسه أصلاً بمنظومة فكر وقيم لاهوتية وثقافية تفهم مسألة الحقوق من نفاذ مختلف تماماً عن نفاذ فهم “حقوق” في الشارع السياسي المقابل.

هذا يعني أن المسيحية السياسية في لبنان تتورّط في معركة مواجهة (شعبوية وإعلامية وافتراضية ذات طبيعة سلطوية وشخصانية ونرجسية)، المسيحي فيها خاسر حتماً، والمسيحية فيها تسير نحو انتحار ذاتي في المشرق.

لطالما كان المسيحيون صوتاً ينادي بحقوق الإنسان المدنية والطبيعية والمواطنية في المشرق العربي المعاصر، كما تخبرنا قراءة تاريخ المنطقة في القرن الماضي. لطالما كانوا هم رواد هذا الصوت وآباءه في قلب العالم العربي، وفي مواجهة الصوت الذي يعلي الطائفية والصدامي الذي يلوي عنق السياسة في خدمة الهوية الدينية، وينظر أحادياً إلى الحقوق البشرية الطبيعية والمبادئية.

تمسخ المسيحية السياسية في لبنان الفكر المسيحي، وتمتهنه، في مغامرةٍ لن يكون ضحيتها سوى المواطن المسيحي قبل غيره. مؤسفٌ أن مسألة وجود المسيحية في المشرق من عدمها لم تعد مجرد مسألةٍ مرتبطةٍ بموقف الآخرين غير المسيحيين من هذا الوجود المسيحي في المنطقة، بل باتت مسألةً يتم تقريرها من خلال مواقف المسيحيين أنفسهم وخياراتهم الوجودية في قلب تلك المرحلة السوداء التي يعيش فيها العالم العربي. حمى الله المسيحية المشرقية من الهاريكيري الذي يمارسه عليها أولادها.

* د. نجيب جورج عوض شاعر وباحث وأكاديمي سوري، أستاذ اللاهوت المسيحي بكلية هارتفورد للدراسات الدينية، كونيكتكت في أميركا.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة