التفوق العسكري وحده لا يحسم الصراعات

الساعة 2515 أغسطس 2018آخر تحديث :
التفوق العسكري وحده لا يحسم الصراعات
  • من الخطأ الاعتقاد بأن التفوق العسكري وحده يكفي لكسر إرادة الطرف الآخر الاضعف.
  • رغم النفوذ السياسي العالمي لأميركا فقد فشلت في توفير دعم سياسي دولي لقوات الاحتلال الاسرائيلية، وبقيت «إسرائيل» مكشوفة سياسيا واخلاقيا.

بقلم: سعيد الشهابي

تتجسد السنن الكونية (او القوانين الطبيعية كما يحلو للبعض تسميتها) يوميا في كافة جوانب الحياة، ولكن القليل من يدركها او يتدبرها. ويمكن القول ان سنة التوازن هي الاكثر تجليا ووضوحا لمن أراد ان يمعن النظر في ما حوله من انواع الحياة.

تتجسد هذه الظاهرة في عالم السياسة بوضوح، بشكل تلقائي وبدون تخطيط بشري.

ولقد ادركت القوى الكبرى ضرورة إحداث توازن في القوى والسياسة لمنع نشوب الحروب. ويعتبر السلاح النووي أحد أهم أساليب الردع التي انتهجت بعد الحرب العالمية الثانية.

ويمكن القول ان العقل البشري انطلق بوحي التجارب الإنسانية الصعبة لتحقيق شيء من السلام من خلال ما اصطلح على تسميته «توازن الرعب» الذي يمكن ان يكون رادعا للمتحاربين بسبب خشيتهم من التداعيات الخطيرة في حالة اختلال توازن القوى بين الجهات المتصارعة.

مع ذلك تحدث الحروب. من الطبيعي نشوب النزاعات، وهذا لا يمكن منع حدوثه، ولكن سعى انسان القرن العشرين لمنع وصول النزاعات حالة الحرب وذلك باختراعات تنطوي على خطر عظيم لا يتهدد الاطراف المتنازعة فحسب بل البشرية جمعاء.

ويمكن القول ان السلاح النووي من اكبر عناصر الردع العسكري. ولذلك قررت القوى الكبرى قبل سبعين عاما حصر امتلاكه بالدول الدائمة العضوية بمجلس الامن الدولي، وان كان امتلاكه قد توسع ليشمل الهند وباكستان والكيان الاسرائيلي.

المسألة المحورية هنا هي ان توازن الرعب عامل كبير لمنع الحروب. مع ذلك فالحروب لم تتوقف، لكنها اصبحت محكومة بشرط التفوق العسكري. لهذا تبنت الولايات المتحدة مبدأ الحفاظ على التفوق العسكري الاسرائيلي في مقابل العرب، لضمان عدم توجه الدول العربية نحو التحرير الشامل لفلسطين.

وفي غياب التوازن يندفع الطرف الاقوى لشن الحرب على الخصم لاعتقاده انه قادر على حسمها لصالحه، وان كانت الحسابات كثيرا ما تخطئ. ومن بين عوامل الخطأ استبعاد العقيدة الدفاعية لدى الطرف الاضعف عسكريا.

في الاسبوع الماضي وقعت حوادث عديدة أكدت عدم الصواب المطلق لمبدأ «توازن الرعب» وفقا للحسابات البشرية، ويعود ذلك لضعف امكانات العقل البشري في استيعاب العوامل الاخرى غير الملموسة التي تؤثر على مسارات الحروب والصراعات.

تؤكد حقائق تاريخ العقود السبعة الاخيرة هذه الحقيقة. فأمريكا لم تنتصر في فيتنام برغم تفوقها العسكري الهائل، ولم تستطع حسم الحرب الكورية بالشكل الذي كانت تسعى لتحقيقه. ولم تُحسم الحرب العراقية ـ الإيرانية بانتصار حاسم لأي من الطرفين.

كما أن أمريكا لم تستطع حسم اية معركة عسكرية خاضتها لوحدها، ابتداء بالصومال مرورا بافغانستان ووصولا للعراق وسوريا. ولذلك اصبح واضحا ان مبدأ «توازن الرعب» معقد ولا يمكن التعويل عليه الا في جوانب محددة.

فالطرف الضعيف عسكريا يستطيع ان يستنزف الطرف الاقوى حتى تخور قواه ويُرغم على وقف الحرب. فالعقيدة السياسية والمبدئية، والايمان بعدالة القضية، والاستعداد للتضحية وانها من اسباب النصر، بالاضافة للاخطاء التي يرتكبها الطرف الاقوى في المعادلة العسكرية.

كل ذلك يساهم في حرمان الطرف الاقوى عسكريا من تحقيق نصر حاسم على الطرف الآخر. ولا تزال ذاكرة الكثيرين تستحضر عجز الولايات المتحدة عن تحقيق انتصار في لبنان برغم الدمار الذي احدثته الفرقاطة «نيوجيرسي» بقنابلها التي تزن الواحدة منها طنا كاملا من المتفجرات. وثمة امثلة اخرى نوجزها في ما يلي:

اولا: ان قصف الطائرات السعودية يوم الخميس الماضي حافلة تنقل اطفال المدارس بمحافظة صعدة اليمنية كان جريمة حرب شنيعة، وتعبيرا واضحا عن حالة يأس واحباط لدى الجانب السعودي. وقد ارتفعت صيحات الاحتجاج من كل مكان، واضطر الامين العام للامم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، للدعوة لاجراء تحقيق فيها.

فقد كانت مشاهد الاطفال التي مزقت الطائرات السعودية اجسادهم مثيرة للتقزز والغضب. ولكنها في الوقت نفسه كشفت عدم فاعلية التفوق العسكري السعودي، وان امتلاك ترسانات عسكرية عملاقة تشمل احدث الطائرات والاسلحة، لا تحسم الحرب.

وكانت السعودية ومعها الامارات تعتقدان ان تفوقهما العسكري وامتلاكهما اموالا نفطية هائلة ستجعل الآخرين يركعون امامهما، ولكن بعد اكثر من اربعين شهرا من الحرب ما زال الوضع يراوح مكانه، بينما تتصاعد اعداد الضحايا من الجانبين.

ثانيا: بالتزامن مع الحادثة المذكورة، شن الطيران الاسرائيلي غارات على غزة واهلها وقتل الابرياء. وضجت الاطراف الحقوقية والسياسية بالاستنكار ضد استهداف المدنيين وتفجير منزل استشهدت فيه الطفلة «بيان» وأمها وشخص ثالث.

هل يمكن مقارنة الامكانات العسكرية الاسرائيلية بما لدى المجموعات الفلسطينية من سلاح او عتاد؟

ميزان القوى العسكري وحده لم ينصر الاسرائيليين ولم يهزم الفلسطينيين الذين يمتلكون اسلحة اخرى غير عسكرية، سياسية وأخلاقية وقيمية. اما الاسرائيليون فليس لديهم سوى التفوق العسكري الذي يشمل احدث الطائرات والصواريخ، بينما افتقدوا اية ميزة اخلاقية او قيمية.

على مدى اثني عشر عاما تراجع الاعتماد على التفوق العسكري وحده، واصبح سيفا كليلا، بينما استطاع الفلسطينيون واللبنانيون تطوير أدائهم العسكري، وأردفوه بالبعد الاخلاقي والقيمي، ليتحولوا إلى قوة ميدانية لا يستطيع الجيش الاسرائيلي إلحاق الهزيمة بها.

ورغم النفوذ السياسي الأمريكي في العالم فقد فشل في توفير دعم سياسي دولي لقوات الاحتلال الاسرائيلية، وبقيت «اسرائيل» مكشوفة سياسيا واخلاقيا.

ثالثا: صفق الرئيس الأمريكي الشهر الماضي لنفسه عندما التقى زعيم كوريا الشمالية، كم جونغ أون، واقنع العالم بانه انهى المشروع النووي الكوري. ولكن اتضح الآن ان الزعيم الكوري يرفض التخلي عن اسلحته النووية ويفرض شروطا اضافية للنظر فيها.

هذا برغم الهالة الاعلامية التي صاحبت لقاء الزعيمين. أمريكا بثقلها العسكري كله لم تستطع حتى الآن تركيع كوريا الشمالية، فماذا يعني ذلك؟ ان من الخطأ الاعتقاد بان التفوق العسكري وحده يكفي لكسر ارادة الطرف الآخر الاضعف.

رابعا: يرى المارة امام سفارة البحرين في لندن، شابا ثلاثينيا يفترش الارض ويلتحف السماء منذ ان اعلن اضرابه عن الطعام منذ اثني عشر يوما. علي مشيمع قرر بدء اضرابه احتجاجا على منع والده، الاستاذ حسن مشيمع، من العلاج والدواء منذ 15 شهرا.

هذا المعارض السياسي البحراني معتقل مع اكثر من 4000 شخص آخر منذ اجتياح القوات السعودية ـ الاماراتية اراضي البحرين في منتصف عام 2011 ضمن مشروع قوى الثورة المضادة لقمع ثورات الربيع العربي.

الاستاذ حسن مشيمع أحد أبرز قادة الثورة لقي تنكيلا رهيبا وثقت بعض تفصيلاته لجنة المرحوم شريف بسيوني التي تشكلت بضغط دولي للتحقيق في الانتهاكات التي حدثت في الشهرين الاولين بعد دخول القوات المذكورة.

عندما انطلقت الثورة في 14 فبراير من ذلك العام كان مشيمع الوالد في لندن لتلقي العلاج لمرض سرطان الغدد اللمفاوية. ومنذ اعتقاله حرم من العلاج المناسب والادوية الضرورية لمنع عودة ذلك المرض وبقية الامراض كالسكر والضغط وامراض الأذن.

نفدت الادوية من العنبر الذي يضم قادة الثورة، فارتفعت نسبة السكر لديه ولدى سجناء آخرين، حتى بلغت مرحلة الخطر. ورغم مخاطبة السلطات البريطانية التي تشرف على ادارة سجون البحرين، الا ان التنكيل والانتقام والعقوبات لم تتوقف.

فجاء قرار علي حسن مشيمع الدخول في اضراب مفتوح عن الطعام حتى يتم توفير العلاج والدواء لوالده وبقية معتقلي الرأي في سجون البحرين.

مرة اخرى يخضع توازن القوى لامتحان صعب، ستكشف الايام نتائجه. فالقوى المادية وحدها لا تفي بالغرض لان السماء ترصد، بعين الله التي لا تنام وسننه التي لا تخطيء، من يمارس الاضطهاد والظلم، وتأبى ان تتجاهل دعوات المظلومين، وتؤكد وجودها باسقاط الظالمين وان تلفعوا بشعارات مزيفة عن التغيير والحرية.

٭ د. سعيد الشهابي كاتب بحريني

المصدر: القدس العربي

مفاتيح: سنة التوازن، «توازن الرعب»، النزاعات والحروب، السلاح النووي، الردع العسكري، الاحتلال الإسرائيلي، اليمن، البحرين،

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة