أزمات الرأسمالية الديموقراطية

الساعة 2529 أبريل 2017آخر تحديث :
fdkeksdxkdsakzs

fdkeksdxkdsakzsتحوَّل انهيار النظام المالي الأمريكي، الذي حَدَثَ في عام 2008، إلى أزمة سياسية واقتصادية ذات أبعاد عالمية (1). كيف يمكن فهم هذا الحدث الذي هزَّ العالم بأسره؟

يميل علم الاقتصاد السائد إلى تصوير العالم باعتباره محكوما باتجاه عام نحو التوازن، بحيث لا تعدو الأزمات والتغيُّرات سوى أن تكون مجرد انحرافات مؤقتة عن الحالة العامة الثابتة لنظام متكامل وطبيعي. لكن لا ينبغي أن يلوم علماء الاجتماع أنفسهم على ذلك. وبدلا من تفسير الضائقة الراهنة على أنها اضطراب عابر في الأوضاع المستقرة، سأعتبر “الكساد الكبير” (2) والانهيار التالي الوشيك للماليات العامة كمظهر من مظاهر التوتر الأساسي الكامن في التكوين السياسي والاقتصادي للمجتمعات الرأسمالية المتقدمة؛ ذلك التوتر الذي يجعل عدم التوازن وانعدام الاستقرار قاعدة وليس استثناء، وتعبر عنه سلسلة تاريخية من الاضطرابات في النظام الاجتماعي والاقتصادي. وبشكل أكثرِ تحديدا، سأجادل في هذا المقال بأن الأزمة الحالية لا يمكن فهمها تماما إلا بتناول التحوُّل الجاري، المتضارب بطبيعته، للتشكيل الاجتماعي الذي نطلق عليه “الرأسمالية الديمقراطية”.

تأسست الرأسمالية الديمقراطية بشكل كامل فقط بعد الحرب العالمية الثانية، وفقط في الأجزاء الغربية من العالم: أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية. وهناك عَمِلَت الرأسمالية الديمقراطية جيدا، بشكل استثنائي، طوال العقدين اللاحقين، إلى درجة أن هذه الفترة للنمو الاقتصادي المتواصل لا تزال في الواقع تهيمن على أفكارنا وتوقعاتنا لما يمكن، أو لما يجب، أن تكون عليه الرأسمالية الحديثة، وذلك على الرغم من أنه، في ضوء الاضطرابات التالية، ينبغي اعتبار ربع القرن الذي تلا الحرب مباشرة كفترة استثنائية بحق.

وبالطبع أفترض هنا أن الوضع الطبيعي للرأسمالية الديمقراطية لا يتمثل في فترة الثلاثين سنة المجيدة، بل في سلسلة الأزمات التي تلتها، والعامل الأساسي الذي يتحكم في هذا الوضع الطبيعي إنما هو الصراع المتوطن بين الأسواق الرأسمالية والسياسات الديمقراطية، والذي أعاد تأكيد وجوده بقوة حين انتهت فترة النمو الاقتصادي المرتفع في السبعينات. سأناقش فيما يلي طبيعة هذا الصراع، ثم أتناول تسلسل الاضطرابات السياسية والاقتصادية الذي أنتجها هذا الصراع، والتي سبقت الأزمة العالمية الراهنة وشكَّلتها.

1- الأسواق في مواجهة المصوِّتين
إن الشكوك بأن الرأسمالية والديمقراطية لا يمكن الجمع بينهما بسهولة ليست جديدة على الإطلاق. فمنذ القرن التاسع العشر، وكذلك في القرن العشرين، كانت البرجوازية وقوى اليمين السياسي تخشيان من أن حكم الأغلبية، الذي بدوره سيرسي حكم الفقراء على الأغنياء، سيقتلع الملكية الخاصة ويتخلَّص من الأسواق الحرة.

أما الطبقة العاملة الصاعدة، وكذلك قوى اليسار السياسي، فقد حذَّرا من أن الرأسماليين ربما يتحالفون مع قوى الرجعية من أجل القضاء على الديمقراطية، بُغية حماية أنفسهم من الخضوع لحكم أغلبية دائمة يضع إعادة التوزيع الاقتصادي والاجتماعي نصب عينيه. لن أناقش هنا المزايا النسبية لكلا الموقفين، رغم أن التاريخ يطرح بالفعل – على الأقل في العالم الصناعي – أن اليسار لديه من الأسباب ما يكفي ليخشى إطاحة اليمين بالديمقراطية من أجل الحفاظ على الرأسمالية، أكثر مما يخاف اليمين من إجهاز اليسار على الرأسمالية من أجل الحفاظ على الديمقراطية. إلا أن، في السنوات اللاحقة بعد الحرب العالمية الثانية، انتشر افتراض بأن من أجل توفيق الرأسمالية مع الديمقراطية، لابد من إخضاع الرأسمالية لسيطرة سياسية مُحكَمة – على سبيل المثال، تأميم كبرى الشركات والقطاعات الصناعية، أو إشراك العمال في مجالس الإدارات، كما جرى في ألمانيا – من أجل حماية الديمقراطية نفسها من تقييد السوق الحرة لها. وبينما تقدَّم كينز، وإلى حد ما كاليكي وبولاني، إلى الصدارة، تراجع هايك مؤقتا.

ومنذ ذلك الوقت، وعلم الاقتصاد السائد صار مهووسا بـ”استهتار” الساسة الانتهازيين الذين يخدمون جمهورا انتخابيا ليس على دراية بالاقتصاد، من خلال التدخل في الأسواق الفعالة سعيا لتحقيق أهداف معينة، مثل التوظيف الكامل أو العدالة الاجتماعية، تلك الأهداف التي ستحققها الأسواق الحرة على أية حال على الأمد الطويل، لكنها تفشل في تحقيقها إذا ما شوهتها السياسة. وتنشأ الأزمات الاقتصادية، وفقًا لنظريات “الخيار العام” المُتعارف عليها، من التدخلات السياسية التي من شأنها تشويه السوق من أجل أهداف اجتماعية (3).

وطبقًا لهذه الرؤية، فإن النوع الصحيح من التدخل يُبعِد الأسواق عن تضارب السياسة معها، أما النوع الخاطئ فيُشتَق من فائض الديمقراطية، وبالأخص من الديمقراطية التي يحملها الساسة المستهترون إلى الاقتصاد الذي لا شأن لها به. لكن اليوم لم يتوصل كثيرون إلى الاستنتاج الذي تمادى إليه هايك، حيث دافع في سنواته الأخيرة عن إلغاء الديمقراطية، كما نعرفها، دفاعا عن الحرية الاقتصادية والحريات المدنية.

لكن النغمة الثابتة التي تتأسَّس عليها نظرية الاقتصاد المؤسسي الجديد هي نغمة “هايكية” تماما. ومن أجل العمل بشكل صحيح، تتطلب الرأسمالية سياسة اقتصادية تحكمها قواعدٌ ثابتة، بحماية للأسواق وحقوق الملكية، المنصوص عليها دستوريا، ضد التدخلات السياسية، وسلطاتٍ تنظيمية مستقلة، وبنوك مركزية محمية من الضغوط الانتخابية، ومؤسسات دولية، مثل المفوضية الأوروبية أو محكمة العدل الأوروبية، التي لا تضطر للقلق من إعادة الانتخاب الشعبي. مشكلة مثل هذه النظريات أنها تتجنب الإجابة على سؤال كيف نصل من هنا إلى هناك؟ ومن المُرجَّح أن يكون ذلك بسبب أن ما مِن إجابة لديهم من الأصل، أو على الأقل ما مِن إجابة يمكن الإفصاح عنها على الملأ.

هناك العديد من الطرق التي يمكن من خلالها تصور الأسباب الكامنة وراء الصدام بين الرأسمالية والديمقراطية. وفي سياق ما ذكرته آنفا في هذا المقال، أتصوَّر أن الرأسمالية الديمقراطية ما هي إلا اقتصاد سياسي يتحكم فيه مبدآن، أو نظامان، متصادمان في تخصيص الموارد: أحدهما يعمل وفقا للإنتاجية الحدية، أو ما يُعرف بمزايا “الأداء الحر لقوى السوق”، والآخر مبني على أساس الاحتياجات أو الاستحقاقات الاجتماعية، وفق ما تعتمده الخيارات الجماعية للسياسات الديمقراطية. في ظل الرأسمالية الديمقراطية، تكون الحكومات مُطالَبة – نظريا – باحترام كلا المبدأين معا، لكنهما – جوهريا – لا يمكن أن يتواءما. لذا، عمليا، تلجأ الحكومات إلى تجاهل أحدهما لحساب الآخر، حتى تلقى جزاءها من عقبات ذلك، حيث تخاطر الحكومات، التي تفشل في تلبية مزاعمها الديمقراطية بالحماية وإعادة التوزيع، بفقدان أغلبيتها. بينما تتسبب الحكومات، التي تتجاهل مطالبات أصحاب الموارد الإنتاجية بالتعويض (وفقا للغة الإنتاجية الحدية)، في اختلالات اقتصادية، وبالتالي تعجز عن الاستمرار ويتقلَّص أيضا التأييد السياسي لها.

في اليوتوبويا الليبرالية للنظرية الاقتصادية السائدة، فإن التوترات الكامنة في الرأسمالية الديمقراطية بين مبدأي تخصيص الموارد يمكن تجاوزها من خلال تحويل النظرية إلى ما أطلق عليه ماركس “قوة مادية”. وفي وجهة النظر هذه، فإن الاقتصاد كـ”معرفة علمية” يعلِّم المواطنين والساسة أن العدالة الحقيقية هي عدالة السوق، والتي يُكافئ فيها كل فرد وفقا لمساهمته، لا وفقا لاحتياجاته، التي تُعتَبر بتعريف آخر حقوق. وإلى الحد الذي تصير فيه النظرية الاقتصادية مقبولة كنظريةٍ اجتماعية، تصبح حقيقية بالمعنى العملي للكلمة، وبالتالي تكشف عن طبيعتها الخطابية كأداة في البناء الاجتماعي من خلال الإقناع. لكن في العالم الحقيقي، ليس من السهل على الإطلاق أن تقنع الناس بتغيير إيمانهم “غير المنطقي” بحقوقهم الاجتماعية والسياسية، بمعزل عن قوانين السوق وحقوق الملكية.

وحتى الآن، تقاوم مفاهيم العدالة الاجتماعية غير السوقية جهود الترشيد الاقتصادي، حيث صارت تلك الجهود عنيفة في العصر الرصاصي من نهوض الليبرالية الجديدة (من السبعينات إلى الوقت الراهن، حيث معدلات النمو البطيئة والبطالة المرتفعة – المترجم). ويرفض الناس بعناد التخلي عن فكرة الاقتصاد الأخلاقي الذي ينعمون فيه بحقوقٍ لها الأسبقية على نتائج المبادلات في السوق (4). وفي الحقيقة، بمجرد أن تتوفر لديهم الفرصة – كما هو الحال حتميا في ظل الديمقراطيات الفاعلة – يميلون بطريقة أو بأخرى للإصرار على أولوية ما هو اجتماعي على ما هو اقتصادي؛ أي يميلون للإصرار على حماية الالتزامات الاجتماعية من ضغوط السوق من أجل “المرونة”، وعلى تحقيق التوقعات بحياة تخلو من ديكتاتورية “مؤشرات السوق” المتذبذبة باستمرار. يمكن القول إن هذا ما وصفه بولاني، في كتابه “التحوُّل العظيم”، بـ”التحرك المضاد” ضد تسليع العمل.

بالنسبةِ للتيار الاقتصادي السائد، تنتج اضطرابات مثل التضخم، والعجز العام، وكذلك الدين العام والخاص الباهظ، من المعرفة غير الكافية بالقوانين الحاكمة للاقتصاد كآلة مُدرِّة للربح، أو من تجاهل هذه القوانين خلال السعي الأناني للسلطة السياسية. وعلى العكس، تعتبر نظريات الاقتصاد السياسي -إلى الحد الذي تتناول فيه الأمور السياسية بجدية، لا أن تظل مجرد نظريات الكفاءة الوظيفية- مخصصات السوق شكلا من أشكال النظام الاقتصادي السياسي، محكوما بمصالح أولئك الذين يمتلكون الموارد الإنتاجية النادرة، وبالتالي يحتلون موضعا قويا في السوق.

أما أولئك الذين لا يحوزون ثقلا اقتصاديا كبيرا، لكن في نفس الوقت إمكانية سلطة سياسية واسعة فيفضلون نظاما بديلا؛ وهو التخصيص السياسي. من هذا المنظور، فإن الاقتصاد المعياري ما هو إلا الإعلاء النظري لنظام اجتماعي وسياسي واقتصادي يخدم أولئك الأوفر حظا مع قوى السوق، لأنه يعادل مصالحهم مع المصالح العامة. إنه يمثل المزاعم التوزيعية لأصحاب رأس المال الإنتاجي، باعتباره ضرورة تقنية للإدارة الاقتصادية الجيدة، بالمعنى العلمي السليم.

وبالنسبة للاقتصاد السياسي، فإن اعتبار الاقتصادات السائدة للاختلالات في الاقتصاد على أنها نتيجة الانقسام بين المبادئ التقليدية للاقتصاد الأخلاقي والمبادئ المنطقية الحديثة، هو بمثابة تحريف مُغرِض، إذ يخفي حقيقة أن الاقتصاد “الاقتصادي” إنما هو أيضا اقتصاد أخلاقي بالنسبة لأولئك الذين يحوزون قوى أكبر في السوق. في لغة الاقتصاد السائد، تظهر الأزمات كعقاب للحكومات على فشلها في احترام القوانين الطبيعية الحاكمة للاقتصاد. وعلى العكس من ذلك، تعتبر نظرية الاقتصاد السياسي، الجديرة بحق بهذا الاسم، الأزمات كمظاهر لـ”ردود الأفعال الكاليكينية” من جانب أصحاب الموارد الإنتاجية على السياسات الديمقراطية التي تخترق نطاقهم الذي يستأثرون به، في محاولة من السياسات الديمقراطية لمنعهم من استغلال نفوذهم في السوق إلى أقصاه، وبالتالي تجاوز توقعاتهم بأن يُكافأوا على مخاطراتهم الذكية (5).

تتعامل نظرية الاقتصاد المعياري مع الهيكل الاجتماعي وتوزيع المصالح والسلطة على أنهما من الأمور خارجية المنشأ، تتمسك بهما بثبات، وبالتالي تجعلهما خفيَّين، وموهوبَين بشكل طبيعي لأغراضٍ تتعلق بـ”العلم” الاقتصادي. السياسة الوحيدة التي يمكن لمثل هذه النظرية أن تتصوَّرها تنطوي على محاولات انتهازية، أو في أفضل الأحوال غير ذات كفاءة، لتطويع القوانين الاقتصادية. السياسة الاقتصادية الجيدة هي سياسة غير سياسية بالتعريف.

المشكلة أن هذه الرؤية ليست مشتركة بين كثيرين ممن تُعد السياسة بالنسبةِ لهم مصدرا يحتاجون إليه بشكل مُلح ضد الأسواق، تلك الأسواق التي تتعارض عملياتها غير المشروطة مع ما يشعر به هؤلاء أنه صحيح. وإذا لم يقتنع هؤلاء، بشكل ما، بتبني الاقتصاد النيوكلاسيكي كنموذج بديهي على ماهية الحياة الاجتماعية وكيف يجب أن تكون، فإن مطالبهم السياسية، التي يعبرون عنها ديمقراطيا، ستختلف عن وصفات نظرية الاقتصاد المعياري.

والمعنى الضمني لذلك هو أنه، بينما قد يميل الاقتصاد نحو التوازن، إذا تَجَرَّدَ من الناحية المفاهيمية بما فيه الكفاية، قد لا يفعل الاقتصاد السياسي الأمر نفسه إلا إذا خلا تماما من الديمقراطية ليُدار بواسطة ديكتاتورية أفلاطونية لملوك اقتصاديين. لقد فعلت السياسات الرأسمالية، كما سنرى لاحقا في هذا المقال، ما في وسعها لإخراجنا من صحراء الانتهازية الديمقراطية الفاسدة إلى الأرض الموعودة للأسواق التي تدير نفسها ذاتيا. إلا أن، على الرغم من ذلك، تستمر المقاومة الديمقراطية، ومعها الاضطرابات في اقتصادات السوق، هذه الاضطرابات التي من شأنها استنهاض هذه المقاومة باستمرار.

2- تسويات ما بعد الحرب
شهدت الرأسمالية الديمقراطية أزمتها الأولى في العقد التالي بعد أواخر الستينات، حين بدأ التضخم في التصاعد سريعا عبر العالم الغربي، حيث جعل انخفاض النمو الاقتصادي من الصعب الحفاظ على صيغة السلام الاقتصادي والسياسي بين رأس المال والعمال، تلك الصيغة التي أنهت الاضطرابات الداخلية بعد ما تسببت فيه الحرب العالمية الثانية من خراب وتدمير. ما استتبع هذه الصيغة بالأساس كان قبول الطبقات العاملة المنظمة للأسواق الحرة وحقوق الملكية في مقابل الديمقراطية السياسية، التي مكَّنتهم من تحقيق أمان اجتماعي ومستوى معيشة مرتفع بثبات. ولقد أدى عقدان من النمو المستمر غير المنقطع إلى تجذير التصورات الشعبية حول التقدم الاقتصادي المتواصل، كحق من حقوق المواطنة الديمقراطية، وتُرجِمَت تلك التصورات في توقعات سياسية وجدت الحكومات نفسها أقل فأقل قدرة على تحقيقها حين بدأ النمو في التباطؤ. كانت بنية تسوية ما بعد الحرب بين العمال ورأس المال هي نفسها عبر البلدان المختلفة التي كان عليها التأسيس للرأسمالية الديمقراطية. وقد تضمن ذلك توسيع نطاق دولة الرفاه، وحق العمال في المفاوضة الحرة الجماعية والضمان السياسي للتوظيف الكامل، تلك الأمور التي كان على الحكومات تأمينها بالتطبيق المُكثَّف للإرشادات الاقتصادية الكينزية. حين بدأ النمو في الانخفاض في أواخر الستينات، صار الحفاظ على هذه الوصفة صعبا. وبينما مكَّنت المفاوضة الجماعية العمال، من خلال نقاباتهم، من التحرك من أجل ما أصبح توقعا راسخا تماما من زيادات سنوية منتظمة للأجور، فإن التزام الحكومة بالتوظيف الكامل، مع تنامي دولة الرفاه، حمى النقابات من فقدان الوظائف نتيجة تسويات الأجور في حالة نمو الإنتاجية. وهكذا، وطَّدَت السياسات الحكومية من القوة التفاوضية لدى النقابات أكثر مما قد يتطلبه سوق العمل الحر. انعكس ذلك في أواخر الستينات في موجة عالمية من النضال العمالي، مدعوما بشعور قوي من الاستحقاق السياسي لمستويات معيشة مرتفعة لا يحوم شبح البطالة حولها.

في السنوات اللاحقة، واجهت الحكومات عبر العالم الغربي بأسره قضية هامة؛ ألا وهي كيف يمكن للنقابات تهدئة مطالب أعضائها الخاصة بالأجور، دون الاضطرار لإلغاء الوعد الكينزي بالتوظيف الكامل. في البلدان التي لا يفضي فيها الهيكل المؤسسي لنظام المفاوضة الجماعية إلى المفاوضة على “اتفاقيات اجتماعية” ثلاثية، ظلت أغلب الحكومات مقتنعة، طوال السبعينات، بأن السماح لمعدلات البطالة بالارتفاع من أجل تضمين زيادات حقيقية في الأجور لهو أمرٌ خطيرٌ للغاية على بقاء هذه الحكومات نفسها، إن لم يكن خطيرا بالفعل على استقرار الديمقراطية الرأسمالية في حد ذاتها. وهكذا صار طريقهم الوحيد هو اتباع سياسة نقدية استيعابية من شأنها أن تأتي على حساب رفع معدل التضخم إلى مستوياتٍ تسارعت مع الوقت، وفي الوقت نفسه السماح باستمرار المفاوضة الجماعية الحرة والتوظيف الكامل.

في المراحل الأولى للتضخم، لم يكن يمثِّل مشكلة كبيرة بالنسبة للعمال الذين تمثلهم نقاباتٌ قوية، والذين هم أنفسهم أقوياء سياسيا بما فيه الكفاية للوصول فعليا إلى أرقام قياسية في الأجور. جاء التضخم، في بادئ الأمر، على حساب الدائنين وأصحاب الأصول المالية، أي تلك الفئات التي لم تتضمن عمالا بطبيعة الحال، على الأقل في ستينات وسبعينات القرن الماضي. وهذا هو السبب وراء اعتبار التضخم انعكاسا نقديا لصراع توزيعي بين الطبقة العاملة، التي تطالب بكل من الأمان الوظيفي ونصيب أكبر من الدخول القومية لبلدانها، والطبقة الرأسمالية التي تسعى لزيادة العائد على رأس مالها إلى أقصى حد. وبما أن لدى كل من الطرفين أفكارا متعارضة عما هو من حقهم، نجد أن طرفا يشدِّد على استحقاقات المواطنة، والآخر يؤكد على الحق في الملكية والحفاظ على قوة السوق. يمكن أيضا اعتبار التضخم أمرا شاذا في مجتمع لا يتفق، لأسباب هيكلية، على معايير مُحدَّدة ومشتركة للعدالة الاجتماعية. وهذا هو المنطلق الذي دفع عالم الاجتماع البريطاني، جون جولدثورب، أن يطرح في نهاية السبعينات أن التضخم العالي تعذَّر التخلص منه في اقتصاد السوق الرأسمالي الديمقراطي الذي سمح للعمال والمواطنين بتصحيح نتائج السوق عبر الحركة السياسية الجماعية (6).

أما بالنسبة للحكومات التي صارت تواجه مطالب متعارضة من العمال ورأس المال، في عالم من معدلات النمو المنخفضة، كانت السياسة النقدية الاستيعابية بديلا مريحا لتجنب صراع اجتماعي لن يربح فيه أحد. كان النمو الاقتصادي، في سنوات ما بعد الحرب، قد وفر للحكومات التي تصارع المفاهيم المتعارضة للعدالة الاقتصادية سلعا وخدمات إضافية كان من شأنها نزع فتيل التناقضات الطبقية. والآن يتعيَّن على الحكومات استخدام أموال إضافية، لا يغطيها الاقتصاد الحقيقي، على سبيل لاستحضار موارد المستقبل إلى الاستهلاك والتوزيع الحاليَين. وهذا النمط من تهدئة الصراع، الذي كان فعَّالا في البداية، لا يمكن أن يستمر إلى أجل غير مُسمى. فالتضخم المتسارع، كما يشير هايك بلا كلل أو ملل، من شأنه أن يتسبب في تشوهات اقتصادية لا يمكن السيطرة عليها في نهاية المطاف في الأسعار النسبية، وفي العلاقة بين الدخول الثابتة والمتغيِّرة، وفيما يُطلِق عليه الاقتصاديون “الحوافز الاقتصادية”.

وفي النهاية، باستدعاء ردود الأفعال الكاليكينية من جانب أصحاب رؤوس الأموال الذين يتزايد تشككهم يؤدي التضخم إلى البطالة، مُنزلا عقابه على نفس العمال الذين ربما يكون قد خدم مصالحهم في البداية. وفي هذه النقطة على الأقل، تتعرض الحكومات في ظل الرأسمالية الديمقراطية لضغط من أجل وقف استيعاب تسويات الأجور واستعادة الانضباط المالي.

3- تضخم منخفض وبطالة مرتفعة

هُزِم التضخم بعد 1979، حين رفع بول فولكر، الذي عيَّنه الرئيس الأمريكي كارتر رئيسا لبنك الاحتياطي الفيدرالي، أسعار الفائدة إلى مستويات غير مسبوقة، فقفزت البطالة إلى مستويات غير مسبوقة منذ الكساد الكبير. انتهى “انقلاب” فولكر، حين أُعيدَ انتخاب الرئيس ريجان في 1984، حيث قِيلَ إن ريجان كان يخشى التداعيات السياسية لسياسات معالجة التضخم العنيفة التي اتبعها فولكر. أما تاتشر، التي اتبعت هذا المسار الأمريكي، فقد أُعيدَ انتخابها هي الأخرى في 1983، على الرغم من معدلات البطالة المرتفعة، وتراجع الصناعة، ضمن أمور أخرى نتجت عن سياسة نقدية تقييدية.

ترافقت معالجة التضخم، في كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، مع هجمات قاسية على النقابات، من قِبَل الحكومات وأرباب العمل، مما تجسَّد في هزيمة ريجان للمراقبين الجويين، وضرب تاتشر للاتحاد الوطني لعمال المناجم. في السنواتِ التالية، ظلت معدلات التضخم منخفضة بشكلٍ مستمر عبر أرجاء العالم الرأسمالي، بينما ظلت البطالة تزداد بهذا القدر أو ذاك على نحو مُطرد (الشكل 2 أدناه). وبالتوازي مع ذلك، تراجعت النقابات في كلِ مكان تقريبا، وصارت الإضرابات العمالية نادرة الحدوث، إلى درجة أن بعض الدول توقفت عن رصدها (الشكل 3 أدناه).

بدأ عصر الليبرالية الجديدة مع نبذ الحكومات الأنجلو أمريكية حكمة الرأسمالية الديمقراطية ما بعد الحرب، والتي تقضي بأن البطالة تقوِّض التأييد السياسي، ليس فقط لحكومة اليوم أو الوقت الراهن، بل للرأسمالية الديمقراطية نفسها. وكانت التجارب التي أجراها ريجان وتاتشر على ناخبيهما محل انتباه صنَّاع القرار والسياسات عبر العالم. إلا أن الإحباط سرعان ما أصاب أولئك الذين ربما أملوا في أن وضعَ حد للتضخم سيعني إنهاء الاضطرابات الاقتصادية. فمع تراجع التضخم، بدأ الدين العام في الازدياد، ولم يكن في الأمر مفاجأة غير مُتوقعة بالكامل (7).

وكان لازدياد الدين العام في الثمانينات أسبابٌ عديدة. لقد دفع ركود النمو دافعي الضرائب إلى النفور مما يُفرَض عليهم من ضرائب أكثر من أي وقت مضى، ومع انتهاء التضخم انتهى أيضا الفرض التلقائي للضرائب عبر ما سُمِيَ بـ”زحف الشرائح”. الأمر نفسه ينطبق على الانخفاض المستمر لقيمة الدين العام عبر إضعاف العملات الوطنية، تلك العملية التي استكملت النمو الاقتصادي في البداية، ثم بعد ذلك استبدلته بصورة متزايدة، لتحد من الدين المتراكم للدولة نسبيا إلى الدخل الإسمي. وعلى صعيد النفقات، تطلبت البطالة المتزايدة، والناتجة عن الاستقرار النقدي، زيادة في النفقات على المساعدات الاجتماعية.

كما بدأت الاستحقاقات الاجتماعية المتعددة التي أنشِأت في السبعينات، في مقابل الاعتدال في أجور النقابات – المختلفة عن أجور العصر الشركاتي الجديد – في النضوج حتى أصبحت مُستحقة، مما شكَّل عبئا على كاهل المالية العامة.

وبما أن التضخم لم يعد متاحا من أجل سد الفجوة بين مطالب المواطنين ومطالب “الأسواق”، وقع عبء تأمين السلام الاجتماعي على عاتق الدولة. تحوَّل الدين العام، لفترة من الزمن، إلى نظير مناسب مُكافىء للتضخم. وكما هو الحال مع التضخم، جعل الدين العام من الممكن إدخال الموارد في الصراعات التوزيعية في وقت لم تكن هذه الموارد قد أُنتِجت أصلا في الحقيقة، مما مكَّن الحكومات من الاستعانة بموارد مستقبلية بالإضافة إلى تلك الموارد التي في متناول يدها بالفعل. وحينما تحوَّل الصراع بين السوق والتوزيع الاجتماعي من سوق العمل إلى الساحة السياسية، حلَّت الضغوط الانتخابية محل المطالب النقابية.

وبدلا من تعريض العملة للتضخم، بدأت الحكومات في الاقتراض على نطاق متزايد لاستيعاب الطلب على المنافع والخدمات كحق من حقوق المواطن، جنبا إلى جنب مع المطالبات المتنافسة للدخول لتعكس حكم السوق، وبالتالي تساعد على تحقيق الاستفادة الربحية القصوى من الموارد الإنتاجية. كان التضخم المنخفض مفيدا في ذلك، إذ طمأن الدائنين أن السندات الحكومية ستحتفظ بقيمتها على مدى طويل، وبالتالي انخفضت أسعار الفائدة حين تداعى التضخم.

تراكم الدين العام هو الآخر، تماما مثل التضخم، لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. ولطالما حذَّر الاقتصاديون من “مزاحمة” العجز في الإنفاق العام للاستثمارات الخاصة، مما يتسبب في زيادة أسعار الفائدة وانخفاض معدلات النمو، لكنهم لم يتمكنوا مطلقا من تحديد أين تكمن هذه النقطة الحرجة بالضبط. عمليا، كان من الممكن، على الأقل لفترة من الزمن، الإبقاء على أسعار الفائدة منخفضة من خلال تحرير الأسواق المالية في أثناء احتواء التضخم من خلال الهجوم المستمر على النقابات (8). ومع ذلك، بدأت الولايات المتحدة بشكل خاص، بمعدل الإدخار الوطني المنخفض لديها، تبيع السندات الحكومية، ليس فقط للمواطنين، بل أيضا للمستثمرين الأجانب، بما يتضمن صناديق الثروة السيادية من مختلف الأنواع (9). بالإضافة إلى ذلك، فمع زيادة أعباء الديون، كان يجب تكريس حصة متزايدة من الإنفاق العام لخدمة الدين، حتى مع بقاء أسعار الفائدة منخفضة. وقبل أي شيء، لابد أن تكون هناك نقطة، ربما غير معروفة مُسبَّقا، يبدأ عندها الدائنون، الأجانب والمحليون على حد سواء، في القلق على استعادة أموالهم. وحينها على الأقل تبدأ الضغوط من جانب “الأسواق المالية” في التصاعد من أجل تعزيز الميزانيات العامة والعودة إلى الانضباط المالي.

4- رفع القيود والديون الخاصة
هيمنت مسألة العجز المزدوج على أجواء الانتخابات الرئاسية عام 1992 في الولايات المتحدة: عجز الحكومة الفيدرالية، وعجز الدولة ككل، في التجارة الخارجية. وقد دشَّن فوز بيل كلينتون، الذي ركزت حملته الانتخابية بالأساس على الـ”عجزٌ المزدوج”، محاولاتٍ عالمية لضبط الأوضاع المالية، تم الترويج لها بقوة بزعامة أمريكية من قِبَل منظمات دولية مثل صندوق النقد الدولي (IMF) ومنظمة التعاون والتنمية (OECD). في بادئ الأمر تصوَّرت إدارة كلينتون أنه بالإمكان سد العجز العام من خلال تسريع النمو الاقتصادي على خليفة إصلاحٍ اجتماعي، مثل زيادة الإنفاق العام في التعليم (10). لكن بمجرد أن فَقَدَ الديمقراطيون أغلبيتهم في الكونجرس، في انتخابات التجديد النصفي عام 1994، تحوَّل كلينتون إلى سياسة تقشف تتضمن استقطاعات كبيرة في الإنفاق العام وتغييرات في السياسات الاجتماعية، تلك التغييرات التي وضعت حدا لـ”دولة الرفاه كما نعرفها”، بحسب كلمات الرئيس. ومنذ عام 1998 وحتى عام 2000، صار لدى الحكومة الفيدرالية الأمريكية، لأولِ مرة منذ عقود، فائض في الميزانية.

إلا أن هذا لا يعني أن إدارة كلينتون قد وجدت طريقها بشكل ما إلى إصلاح الاقتصاد السياسي للرأسمالية الديمقراطية دون اللجوء إلى الموارد الاقتصادية المستقبلية. استندت استراتيجية كلينتون في إدارة الصراع الاجتماعي، بشكل كبير، على تحرير القطاع المالي الذي كان قد بدأ في ظل ريجان ودفعه كلينتون إلى أبعد من ذلك بكثير (11).

كانت الزيادة السريعة في عدم المساواة في الدخل، الناتجة عن الاستمرار في تفكيك النقابات والاستقطاعات الحادة في الإنفاق الاجتماعي، وكذلك انخفاض إجمالي الطلب الناتج عن ضبط أوضاع المالية العامة، تقابلها فرصٌ جديدة وغير مسبوقة للمواطنين والشركات لتغريق أنفسهم بالديون. واستُخدِمَ مصطلح “الكينزية المُخصخَصة”، بشكل مُوفَّقٍ لوصف ما كان في الواقع استبدالا للدين العام بالدين الخاص (12). وبدلا من أن تقترض الحكومة أموالا لتحقيق المساواة في الحصول على سكن لائق، أو تنمية مهارات عملية قابلة للتسويق، صار على المواطنين -في ظل نظام اقتراض شديد الكرم- سواء باختيارهم أو مُجبرين على ذلك كما يحدث أحيانا، أخذ قروض على مسئوليتهم الخاصة يدفعون بها من أجل التعليم أو للانتقال للعيش في منطقة حضرية أقل حرمانا.

استفاد الكثيرون من سياسة كلينتون في ضبط المالية العامة والإنعاش الاقتصادي عبر التحرير المالي. أُعفِيَ الأغنياء من الضرائب الأعلى، بينما حوَّل أكثرهم حِكمةً استثماراتهم إلى القطاع المالي ليجنوا أرباحا طائلة على “الخدمات المالية” الأكثر تعقيدا من أي وقت مضى، والآن لديهم رخصةٌ غير محدودة للبيع. لكن الفقراء أيضا قد ازدهروا، على الأقل بعضهم وفقط لفترة من الزمن. صارت الرهون العقارية عالية المخاطر، رغم وهميتها في نهاية المطاف، بديلا عن السياسة الاجتماعية التي كان يجري تفكيكها سريعا، فضلا عن الزيادات في الأجور التي لم تكن تأتي في الطرف الأدنى من سوق العمل “المرن”. أما بالنسبة للأمريكيين الأفارقة تحديدا، فامتلاك منزل لم يكن مجرد “حلما أمريكيا” يتحقق في الواقع، بل أيضا بديل كانوا في حاجة ماسة إليه لمعاشات كبار السن التي لم يكن الكثيرون منهم قادرين على الحصول عليها في أسواق العمل وقتذاك، والتي لم يكن لديهم أي سبب يدعوهم لتوقعها من حكومة عاكفة على التقشف الدائم.

لبعضِ الوقتِ، كان مجرد امتلاكِ منزل يقدم في حد ذاته للطبقة الوسطى، وحتى بعض الفقراء، فرصة جذَّابة للمشاركة في جنون المضاربة التي جعلت الأغنياء أكثر ثراء في التسعينات ومطلع الألفية الثالثة – ثبُتَ لاحقا أنها لم تكن إلا فرصة غادرة. ومع ارتفاع أسعار المنازل، في ظل زيادة الطلب من الناسِ غير القادرين في الظروفِ العاديةِ على الشراء، صار من الشائع استخدام الأدوات المالية الجديدة لاستخراج جزء من أسهم المنزل، أو كل أسهمه، لتغطية تكاليف التعليم الجامعي للجيل القادم، تلك التكاليف الآخذة في الارتفاع بسرعة كبيرة، أو ببساطة لتغطية نفقات الاستهلاك الشخصي لتعويض ركود الأجور أو انخفاضها. ولم يكن أيضا من غير المعتاد أن يستخدم أصحاب المنازل ائتمانهم الجديد لشراء مسكن ثان أو ثالث، على أملِ صرفِ ما كان متوقعا، بطريقة أو بأخرى، من زيادة مفتوحة في قيمة العقارات. وبهذه الطريقة، وعلى عكس عصر الدين العام، حين كان يتم شراء الموارد المستقبلية من أجل الاستخدام الحالي عن طريق الاقتراض الحكومي، تُقدَّم هذه الموارد الآن من قِبَلِ عدد لا يُحصى من الأفراد الذين يبيعون، في أسواقٍ مالية مُحرَّرة، التزامات بدفع حصة كبيرة من إيراداتهم المستقبلية المتوقعة، إلى الدائنين، والدائنون بدورهم يوفرون لهم الإمكانيات لشراء كل ما يشاءون في الحال.

وهكذا فإن التحرير المالي عوض عصرِ ضبط المالية العامة والتقشف العام. حلَّ الدين الخاص محل الدين العام، واتخذ الطلب الفردي، الذي عزَّزَته صناعة المال سريعة النمو، مكان الطلب الجماعي الخاضع للدولة في دعم العمالة والأرباح في قطاع البناء والقطاعات الأخرى (الشكل 4). تسارعت هذه الآلية بعد 2001، حين تحوَّل بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى معدلات فائدة منخفضة للغاية لمنع الركود الاقتصادي وما تتضمنه من عودة لنسب البطالة المرتفعة.

وبالإضافة إلى الأرباح غير المسبوقة في القطاع المالي، حافظت الكينزية المُخصخَصة على اقتصاد مزدهر صار موضع غِيرة على الأقل من جانب الحركات العمالية الأوروبية. في الحقيقة، اعتُمِدَت سياسة ألان جرينسبان للمال السهل، تلك السياسة التي تدعم المديونية سريعة التنامي في المجتمع الأمريكي، كنموذج من قِبَل قادة النقابات الأوروبية، الذين لاحظوا بحماس مُفرِط أن البنك الاحتياطي الفيدرالي، على عكس البنك المركزي الأوروبي، كان مُلزما ليس فقط بتحقيق الاستقرار المالي، بل أيضا بالوصول إلى معدلات مرتفعة للتوظيف. كل ذلك بالطبع انتهى بحلولِ عام 2008، حين انهار على نحو مفاجئ هرم الائتمان الدولي، الذي استند إليه رخاء أواخر التسعينات وأوائل الألفية الثالثة.

5- المديونية السيادية
مع تحطم الكينزية المُخصخَصة في 2008، دخلت أزمة الرأسمالية الديمقراطية ما بعد الحرب مرحلتها الرابعة والأخيرة، بعد عصور متتالية من التضخم والعجز العام والمديونية الخاصة (الشكل 5) (13). ومع وشوك القطاع المالي العالمي على التفكك، سعت الدول القومية لاستعادة الثقة الاقتصادية من خلال تأمين القروض الرديئة المُرخَّصة تعويضا عن ضبط الأوضاع المالية. وجنبا إلى جنب مع التوسع المالي الضروري لمنع انهيار في “الاقتصاد الحقيقي”، نتج عن ذلك زيادة كبيرة جديدة في العجز العام والدين العام – في تطور لا علاقة له بالإفراط في الإنفاق من قِبَل الساسة الانتهازيين أو السياسات الخاطئة للمؤسسات العامة، كما تطرح نظريات “الخيار العام” وكتابات الاقتصاد المؤسسي في التسعينات، تحت رعاية صندوق النقد والبنك الدوليَين ضمن آخرين (14).

إن القفزة النوعية في المديونية العامة بعد 2008، التي أنهت أي ضبط لأوضاع المالية العامة ربما يكون قد تحقق في العقد السابق، عكست حقيقة أن ما مِن دولة ديمقراطية قد جرؤت على أن تفرض على مجتمعها أزمة اقتصادية أخرى بنفس أبعاد الكساد الكبير في الثلاثينات، كعقاب على تجاوزات القطاع المالي المُحرَّر. ومرة أخرى، تحركت السلطة السياسية لإتاحة الموارد المستقبلية لتأمين السلام الاجتماعي الحالي، حيث أن الدول -بهذا القدر أو ذاك من الطواعية- قد أخذت على عاتقها حصة كبيرة من الديون الجديدة التي خُلِقَت أصلا في القطاع الخاص، وذلك لطمأنة الدائنين من القطاع الخاص. وفي حين ساهم ذلك في دعم القطاع المالي بشكل فعَّال، حيث تم استعادة أرباحه الاستثنائية ومرتباته وعلاواته بسرعة، إلا أنه فشل في منع تصاعد الشكوك من نفس الأسواق “الأسواق المالية” التي ربما تكون الحكومات القومية قد فرضت نفسها عليها خلال عملية إنقاذها. وحتى مع استمرار الأزمة الاقتصادية العالمية، بدأ الدائنون بشكل صاخب في المطالبة بالعودة للمال المستقر من خلال التقشف المالي، بحثًا عن ضمانة أن لا يضيع استثمارهم المتزايد في الدين الحكومي.

وفي الثلاث سنوات بعد عام 2008، تحوَّل الصراع التوزيعي في ظل الرأسمالية الديمقراطية إلى صراع شد حبل معقد بين المستثمرين الماليين العالميين وسيادة الدول القومية. وبينما كان العمال في الماضي يتصارعون مع أرباب العمل، والمواطنون مع وزراء المالية، والدائنون مع المصارف الخاصة، الآن تتصارع المؤسسات المالية مع نفس الدول التي ابتزتها من أجل إنقاذها. لكن التكوين الأساسي للسلطة والمصالح أكثر تعقيدا من ذلك بحيث لا يزال ينتظر المزيد من الاستكشاف المنهجي. على سبيل المثال، منذ بداية الأزمة، عادت الأسواق المالية لفرض أسعار فائدة متفاوتة بشكل كبير على الدول المختلفة، وبالتالي صار هناك تفريقا في الضغوط التي تقع على الحكومات لإخضاع مواطنيها لتخفيضات لم يسبق لها مثيل في الإنفاق – بنفس منطق السوق للتوزيع الذي لم يتغيَّر. وبالنظر إلى حجم الديون الواقعة على أغلب الدول اليوم، حتى أقل الزيادات في معدلات الفائدة على السندات الحكومية يمكنها أن تتسبب في كارثة مالية (15). وفي نفس الوقت، لابد أن تتجنب الأسواق دفع الدول إلى إعلان الإفلاس، الذي يُعد خيارا دائما للحكومات إذا صارت ضغوط السوق قوية جدا. ولهذا يكون لزاما على بعض الدول أن تنقذ أخرى حين تتعرض للخطر، من أجل حماية نفسها من زيادة عامة على معدلات الفائدة على السندات الحكومية. نوعٌ مشابه “للتضامن” بين الدول في مصلحة المستثمرين يتعزز حين يضرب العجز السيادي البنوك خارج البلاد المتعثرة، فتُجبَر البلدان التي تنتمي إليها هذه البنوك على تأميم كميات هائلة من الديون الرديئة من أجل تحقيق الاستقرار لاقتصاداتها.

هناك الكثير من الطرق التي يعبر بها التوتر القائم في الرأسمالية الديمقراطية، بين مطالب الحقوق الاجتماعية وعمل الأسواق الحرة، عن نفسه. حاولت بعض الحكومات، مثل إدارة أوباما، تجديد النمو الاقتصادي عن طريق المزيد من الديون، على أملِ أن أرباح النمو ستساعد سياسات تصحيح الأوضاع المالية المستقبلية، بينما يأمل آخرون سرًا أن يعود التضخم ليذيب الديون المتراكمة عن طريق مصادرة الدائنين، وهو ما يمكن أن يؤدي مثل النمو الاقتصادي، إلى تخفيف التوترات السياسية الناجمة عن التقشف. وفي الوقت نفسه، ربما تبحث الأسواق المالية عن معركة واعدة ضد التدخل السياسي، مرة واحدة وإلى الأبد، لاستعادة انضباط السوق ووضع حد للمحاولات السياسية لتقويضه.

ما يزيد المسألة تعقيدا هو أن الأسواق المالية تحتاج الدين الحكومي من أجل الاستثمار الآمن، وتضغط بشدة لأن الميزانيات المتوازنة ربما تحرمها من فرص مرغوبة للاستثمار. أما الطبقات الوسطى في الدول الرأسمالية المتقدمة، فقد وضعت جزءا كبيرا من مدخراتها في السندات الحكومية، بينما استُثمر الكثير من العمال بشكل مكثَّف في المعاشات التكميلية. ومن المرجح أن تشمل الميزانيات المتوازنة دولا مضطرة لأن تأخذ من طبقاتها الوسطى، في صورة ضرائب أعلى، ما ادخرته هذه الطبقات واستثمرته، ضمن أمور أخرى في الدين العام. ولن يعجز المواطنون فقط عن تحصيل الفائدة، بل أيضا سيكفون عن ترك أية مدخرات لأطفالهم. ورغم أن ذلك قد يعني أنهم لابد أن يهتموا أن لا تكون الدول محملة بأي ديون، أو على الأقل أن تكون قادرة على الإيفاء بالتزاماتها تجاه دائنيها، فإن الأمر نفسه قد يعني أن عليهم دفع ثمن سيولة حكوماتهم في صورة تخفيضات عميقة في الإعانات والخدمات التي يعتمدون عليها أيضا بشكل جزئي.

ورغم تعقيد الانقسامات الشاملة في السياسات الدولية الناشئة للدين العام، يبدو أن ثمن الاستقرار المالي يدفعه آخرون غير مالكي الأموال، على الأقل الأموال الحقيقية. على سبيل المثال، سيتم التعجيل بإصلاح المعاشات التقاعدية العامة بسبب الضغوط المالية، وإلى الحد الذي عنده عندما تتعثر أية حكومة في أي مكان في العالم، ستتعرض المعاشات هي أيضا لنفس الضربة. وسيضطر المواطنون أن يدفعوا من مدخراتهم الخاصة، ومن خلال التخفيضات التي ستحلّ عليهم في المستحقات العامة، وفي الخدمات العامة، ومن خلال الضرائب الأعلى، من أجل تصحيح الأوضاع المالية العامة، وتجنب إفلاس الدول الأجنبية وزيادة معدلات الفائدة في الدين العام، ولإنقاذ آخر لبنوك وطنية أو دولية إذا لزم الأمر.

6- الإزاحة المستمرة للأزمة
في الأربعة عقود التالية على انتهاء نمو ما بعد الحرب، انتقلت بؤرة التوتر داخل الرأسمالية الديمقراطية من موقعٍ مؤسَّسي إلى آخر، مما أدى إلى سلسلة من الاضطرابات الاقتصادية، تلك الاضطرابات التي كانت مترابطة منهجيا رغم اختلافها عن بعضها. في السبعينات، استعرض الصراع بين المطالب الديمقراطية بالعدالة الاجتماعية والمطالب الرأسمالية بالتوزيع من خلال الإنتاجية الحدية، أو “العدالة الاقتصادية”، نفسه أساسا في أسواق العمل المحلية، حيث تسبَّبَ ضغط النقابات، فيما يخص أجور العمالة تحت التشغيل الكامل المضمون سياسيا، في تسارع التضخم. وحينما صار ما يمكن اعتباره في الواقع إعادة توزيع من خلال خفض قيمة العملة غير قابل للاستمرار اقتصاديا، مجبرا الحكومات على وضعِ حد له بمخاطر سياسية عالية، أطل الصراع برأسِهِ مرة أخرى في الساحة الانتخابية. ومن هنا، أدى ذلك إلى تزايد التفاوت بين الإنفاق العام والإيرادات العامة، مما نتج عنه بالتالي تسارعٌ في تزايد الدين العام، في استجابة لمطالب الناخبين بالمزايا والخدمات مما يتجاوز قدرة اقتصاد الرأسمالية الديمقراطية على تسليمه لـ”دولة الضرائب” (16).

وحين باتت الجهود لكبح جماح الدين العام لا مفر منها، صار لابد أن يرافقها إلغاء للقيود المالية، من أجل تحقيق السلام الاجتماعي، مما سهَّلَ الحصول على الائتمان الخاص لاستيعاب مطالب المواطنين القوية سياسيا بالأمان الاجتماعي والرخاء. هذا أيضا لم يدم أكثر من عقد من الزمن، حتى تعثَّر الاقتصاد العالمي مُثقلا بعبءِ الوعود غير الواقعية بالدفع المستقبلي للاستهلاك والاستثمار الحاليَين، تلك الوعود التي تعهَّدت بها الحكومات تعويضا عن التقشف المالي. ومنذ ذلك الحين، تغيَّر مرة أخرى موقع الصراع بين الأفكار الشعبية عن العدالة الاجتماعية والإصرار الاقتصادي على عدالة السوق، ليظهر هذه المرة في أسواق رأس المال الدولية، وفي المنافسات المعقدة الجارية حاليا بين المؤسسات المالية من ناحية والناخبين من ناحية أخرى، وبين الحكومات والدول من جهة والمنظمات الدولية من جهة أخرى. السؤال هنا هو إلى أي مدى يمكن للدول أن تستمر في فرض حقوق الملكية وتوقعات أرباح الأسواق على مواطنيها، بينما تتفادى الاضطرار لإعلان الإفلاس وتعمل من أجل حمايةِ ما يتبقى من شرعيتها الديمقراطية.

لم يكن احتمال التضخم، وقبول الدين العام، وتحرير الائتمان الخاص، إلا بديلا مؤقتا للحكومات التي تواجه صراعا خارجا عن السيطرة بين مبدأين متناقضين للتوزيع في ظل الرأسمالية الديمقراطية: الحقوق الاجتماعية من جانب، والإنتاجية الحدية، كما يقيِّمها السوق، من جانب آخر. نجحت هذه الأمور الثلاثة (احتمال التضخم، وقبول الدين العام، وتحرير الائتمان الخاص) بالفعل لفترة من الزمن، لكنها بدأت فيما بعد تتسبب في مشاكل أكثر مما كانت قد حلَّتها، لتثبت أن التوفيق المستمر والممتد بين الاستقرار الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي في الديمقراطيات الرأسمالية ليس إلا مشروعا طوباويا. تمكّنت كل تلك الحكومات من التعامل مع أزماتها فقط بنقلها إلى مساحات جديدة، لتظهر هي نفسها مرة أخرى في أشكال جديدة. وما مِن سبب يدعونا لتصديق أن هذه العملية (التفاقم المتوالي لتناقضات الرأسمالية في أشكال جديدة تماما من الاختلال الاقتصادي) يمكن أن تنتهي.

7- اضطرابات سياسية
عند هذه النقطة، يبدو واضحا أن الإدارة السياسية للرأسمالية الديمقراطية قد تراجعت بحِدة خلال السنوات الأخيرة، وبشكل أكبر في بلدان معينة عن غيرها، لكن أيضا بشكل عام في النظام الاقتصادي-السياسي العالمي الصاعد. وكنتيجة لذلك، يبدو أن المخاطر تتنامى باستمرار، على الديمقراطيةِ والاقتصادِ على حد سواء. ومنذ الكساد الكبير، نادرا ما واجه صانعو السياسات، هذه الحالة من الشكِ وانعدام اليقين كما هو الحال اليوم. ومثالٌ على ذلك، ضمن أمثلة عديدة، هو أن الأسواق تتوقع، ليس فقط تصحيح الأوضاع المالية، بل أيضا وفي نفس الوقت، احتمالا معقولا للنمو الاقتصادي في المستقبل. إلا أن كيفية دمج التوقعين معا ليس أمرا واضحا على الإطلاق. ورغم أن علاوة المخاطر على ديون الحكومة الأيرلندية قد انخفضت حين تعهدت الحكومة على نفسها بخفض شديد للعجز، تصاعدت من جديد بعد أسابيع قليلة، بزعم أن برنامج تصحيح الأوضاع المالية جاء صارما بحيث يجعل من التعافي الاقتصادي مستحيلا (17).

والأكثر من ذلك أن هناك قناعة واسعةَ الانتشار بأن هناك فقاعة مقبلة في عالم غارق في الأموال الرخيصة أكثر من أي وقت مضى. وقد لا تصلح الرهون العقارية عالية المخاطر للاستثمار بعد الآن، على الأقل في الوقتِ الراهن. لكن هناك أسواقا للمواد الخام، أو اقتصاد الإنترنت الجديد.

وما مِن شيء يمنع الشركات المالية من استخدام الأموال الفائضة، التي تمدها بها البنوك المركزية، للدخول فيما يظهر من قطاعات النمو الجديدة، نيابة عن عملائها المُفضَّلين، وعن أنفسهم بالطبع.

ومع فشل الإصلاح التنظيمي في القطاع المالي، تقريبا في كل النواحي، تصبح متطلبات رأس المال أعلى قليلا مما كانت عليه من قبل، والبنوك الكبيرة التي لم تفشل في 2008، من الواضح أنها اعتمدت على ذلك في 2012 أو 2013. لكن ذلك قد ترك لديهم نفس المقدرة على ابتزاز الجمهور. لكن الآن، فإن إنقاذ الرأسمالية الخاصة على النحو الذي جرى به الأمر في 2008 يبدو من المستحيل تكراره،على الأقل لأن الأموال العامة تمددت بالفعل إلى أقصى حد.

إلا أن الديمقراطية نفسها في حالة خطرة بنفس القدر من خطورة الأزمة الراهنة على الاقتصاد، إن لم يكن أكثر. و”تكامل النظام” في المجتمعات المعاصرة – أي الأداء الكفء لاقتصاداتهم الرأسمالية – ليس وحده ما يتعرض لعدم الاستقرار، بل أيضا “التكامل الاجتماعي” لهذه المجتمعات (18). ومع قدوم عصر جديد من التقشف، فقد تأثرت بشدة قدرة الدول القومية على تحقيق التوازن بين حقوق المواطنين ومتطلبات التراكم الرأسمالي. وتواجه الحكومات في كلِ مكان مقاومة أقوى لزيادة الضرائب، بالأخص في البلدان المُثقلة بالديون حيث سيتم إنفاق المال العام لعدةِ سنوات على بضائع وسلع تم استهلاكها منذ وقت طويل. والأكثر من ذلك أنه، مع زيادة الاعتماد المتبادل بين البلدان على المستوى العالمي، لم يعد ممكنا التظاهر بأن الصراعات بين الاقتصاد والمجتمع؛ بين الرأسمالية والديمقراطية، يمكن التعامل معها داخل المجتمعات السياسية المحلية. ولا يمكن أن تتولى أية حكومة في العالم مهامها اليوم دون الالتفات للمعوِّقات والالتزامات الدولية، بما يتضمن الأسواق المالية التي تجبر الدول على فرض تضحيات على سكانها. أصبحت أزمات وتناقضات الرأسمالية الديمقراطية منتشرة على الصعيد الدولي، تستعرض نفسها ليس فقط على مستوى كل دولة، بل أيضا بين هذه الدول وبعضها، في تركيبات وتبديلات لم تُكتشف بعد.

وكما نقرأ يوميا في الصحف، فإن “الأسواق” قد بدأت تفرض بطرق غير مسبوقة، ما من المفترض أن تستمر الدول الديمقراطية في فعله لمواطنيها وما يجب أن تمنعه عنهم. ونفس وكالات التصنيف الائتماني في مانهاتن التي كانت أساسية في التسبب في كارثة صناعة المال العالمية تهدد الآن بخفض سندات الدول التي كانت من قبل قد وافقت على مستويات يصعب تصورها من الديون الجديدة لإنقاذ هذه الصناعة ولإنقاذ الاقتصاد الرأسمالي ككل. ولا تزال السياسة تستوعب الأسواق وتشوهها، لكن يبدو أن ذلك يجري على مستوى أبعد كثيرا من الخبرات اليومية للناس العاديين وقدراتهم التنظيمية؛ فالولايات المتحدة على سبيل المثال، المُدجَّجة ليس فقط بحاملات الطائرات لكن أيضا بأعداد لا حصر لها من بطاقات الائتمان، لا تزال تجبر الصين على شراء ديونها المتصاعدة. على الجميع أن يسمعوا ما تخبرهم به “الأسواق”. وكنتيجة لذلك، ينظر المواطنون إلى حكوماتهم، ليس كحكومات تعمل لصالحهم، بل لصالح دول ومنظمات دولية أخرى، مثل صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، تلك المؤسسات الدولية المعزولة عن الضغط الانتخابي أكثر من الدولة القومية التقليدية. في بلدان مثل اليونان وأيرلندا، تُعلَّق كل الأمور التي تمثل الديمقراطية لسنوات طويلة، ومن أجل التصرف بـ”مسئولية”، كما تعرفها الأسواق الدولية والمؤسسات، يتوجب على الحكومات القومية أن تفرض تقشف قاس يصل إلى درجة لا يستطيع المواطنون تحملها (19).

والديمقراطية لا تُفرَّغ من مضمونها فقط في البلدان التي تتعرض لهجمات السوق. فألمانيا، التي لا تزال يجري اقتصادها بشكل جيد نسبيا، قد ألزمت نفسها بعقود من التخفيضات في الإنفاق العام. وبالإضافة إلى ذلك، ستجبر الحكومة الألمانية مواطنيها مرة أخرى على توفير السيولة للبلدان المُعرَّضة لخطر التعثر، ليس فقط من أجل حماية البنوك الألمانية، بل أيضا لتحقيق الاستقرار للعملة الأوروبية المشتركة، ولمنع الزيادة العامة في معدل الفائدة على الدين العام، كما من المرجح أن يحدث في أول انهيار مقبل. ويمكن قياس التكلفة السياسية العالية لذلك في التحلل المتزايد لرأس المال الانتخابي لحكومة ميركل، والذي أدى إلى سلسلة من الهزائم في الانتخابات المحلية الكبرى خلال العام الماضي. وسرعان ما تم التخلي عن الخطاب الشعبوي، الذي أفاد بأن على الدائنين أن يدفعوا هم أيضا نصيبا من التكاليف، كما قالت المستشارة الألمانية في أوائل العام 2010، حين عبَّرت الأسواق عن صدمتها بالرفع الطفيف لمعدل الفائدة على دين عام جديد. والآن يدور الحديث، بحسب كلمات وزير المالية الألماني، حول الحاجة إلى التحولِ من “الحكومة” ذات الطراز القديم، والتي لم تعد تستطيع مواجهة تحديات العولمة، إلى حكم يعني على وجه التحديد تقليصا دائما في سلطة البرلمان على الميزانية (20).

ربما يكون من المستحيل تحقيق التوقعات السياسية لدى الدول الديمقراطية من مبادئها الجديدة. وتتطلب الأسواق والمؤسسات العالمية أن تلزم الحكومة نفسها، ويلزم المواطنون أنفسهم أيضا، بتصحيح الأوضاع المالية. أما الأحزاب السياسية المناهضة للتقشف، فلابد أن تلحق بها هزائمٌ مدوية في الانتخابات، ولابد أن تعهد كلٌ من الحكومة والمعارضة، علنا، بـ”بالسياسات المالية السليمة”، وإلا سترتفع تكلفة خدمات الديون. والانتخابات التي لا تكون فيها للمصوتين اختياراتٌ فعَّالة، قد ينظرون إليها باعتبارها انتخابات زائفة، مما قد يؤدي إلى اضطرابات سياسية، من انخفاض لنسبة المشاركة إلى صعود للأحزاب الشعبوية، إلى أعمال الشغب في الشوارع.

عاملٌ آخر مهم هنا هو أن مساحات الصراع التوزيعي صارت أكثر بعدا عن السياسات الشعبية. لم تكن أسواق العمل القومية في السبعينات، بالفرص المتعددة التي قدمتها للتعبئة السياسية والمصالح الخاصة والتحالفات بين الطبقات، أو سياسات الإنفاق العام في الثمانينات، بالضرورة، بعيدة عن متناول “رجل الشارع”. منذ ذلك الوقت، فإن المعارك التي كانت تناقضات الرأسمالية الديمقراطية تُحارب فيها قد صارت أكثر تعقيدا من أي وقت مضى، مما جعل من الصعب على أي شخص خارج النخب السياسية والمالية أن يحدد مصالحه فيها (21). وبينما يولِّد ذلك حالة من اللا مبالاة على المستوى الشعبي، وبالتالي يجعل الأمور أسهل على النخب، لا يمكن الاعتماد الكامل على ذلك، في عالم يمثل فيه الامتثال الأعمى للمستثمرين الماليين السلوك العقلاني والمسئول الوحيد.

بالنسبةِ لأولئك الذين يرفضون التخلي عن العقلانية والمسئولية الاجتماعية، يبدو مثل هذا العالم ببساطة سخيفا – وفي هذه النقطة، فإن الأداء المسئول الوحيد هو إلحاق أكبر قدرٍ ممكن من التشويه في أعمال التمويل. وحيث تُعلَّق الديمقراطية التي نعرفها، وتوقف عن العمل، كما هي متوقفة بالفعل في بلدان مثل اليونان وأيرلندا والبرتغال، قد تمثِّل اضطرابات الشوارع والتمردات الشعبية الوسيلة الأخيرة المتبقية في التعبير السياسي لأولئك المحرومين من سلطة السوق. هل علينا أن نأمل، باسم الديمقراطية، أن تتسنى لنا فرصةٌ قريبةٌ لنحظى ببضعِ أمثلة أخرى؟

ليس بوسع العلم الاجتماعي إلا أن يفعل القليل – إن كان بمقدوره أن يفعل شيئا أصلا – للمساعدة في تفكيك التوترات والتناقضات الكامنة في الاضطراباتِ الاقتصادية والاجتماعية اليوم. إلا أن ما في استطاعته هو كشف هذه التوترات والتناقضات، وتحديد السيرورات التاريخية التي يمكن في سياقها فهم الأزمات بشكل كامل. وعلاوة على ذلك، يمكنه أيضا – ولابد عليه – أن يشير إلى دراما الدول الديمقراطية التي تحوَّلت إلى وكالات لتحصيل الديون نيابة عن طغمة مستثمرين عالمية، والتي يبدو كتاب “نخبة السلطة” لرايت ميلز، مقارنة بها، مثالا على التعددية الليبرالية (22). تبدو السلطة الاقتصادية اليوم، أكثر من أيِ وقت آخر، كسلطة سياسية، بينما يبدو المواطنون وقد انتُزِعت منهم تماما كل دفاعاتهم الديمقراطية، وكذلك قدرتهم على التأثير على مصالح الاقتصاد السياسي والضغط من أجل مطالبهم التي لا تُقارن بمطالب أصحاب رؤوس الأموال. وفي الحقيقة، بالنظر إلى تسلسل الأزمة الرأسمالية الديمقراطية منذ السبعينات، نجد هناك إمكانية حقيقية لتسوية جديدة – ولو مؤقتة – للصراع الاجتماعي في الرأسمالية المتقدمة، وهذه المرة ستكون التسوية في صالح الطبقات المالكة التي تبدو اليوم راسخة مُتحصِّنة في معقلها الذي لا يمكن مهاجمته سياسيا – القطاع المالي العالمي.

هوامش:
(1) قُدِّمَت هذه الورقة كمحاضرة في 2011 بعنوان “ماكس فيبر” في معهد الجامعة الأوروبية – فلورنسا. وأنا ممتنٌ لدانيال ميرتيز لمساعدته البحثية.

[2] For the term ‘Great Recession’, see Carmen Reinhart and Kenneth Rogoff, This Time Is Different: Eight Centuries of Financial Folly, Princeton 2009.

[3] The classic statement is James Buchanan and Gordon Tullock, The Calculus of Consent: Logical Foundations of Constitutional Democracy, Ann Arbor, MI 1962.

[4] See Edward Thompson, ‘The Moral Economy of the English Crowd in the Eighteenth Century’, Past & Present, vol. 50, no. 1, 1971; and James Scott, The Moral Economy of the Peasant: Rebellion and Subsistence in Southeast Asia, New Haven, CT 1976. The exact content of such rights obviously varies between different social and historical locations.

(5) قال ميتشال كاليكي في مقالة له أن “ثقة” المستثمرين تُعد عاملا حاسما في تحديد الأداء الاقتصادي (Political Aspects of Full Employment’, Political Quarterly, vol. 14, no. 4, 1943). وثقة المستثمر، وفقًا لكاليكي، تعتمد على الحد الذي تُستقطع فيه توقعات الأرباح الحالية لأصحاب رؤوس الأموال بواسطة السلطة السياسية والسياسات التي تعتمدها. وتتولَّد الاختلالات الاقتصادية – البطالة في حالة كاليكي – حين تتعرض توقعات الأرباح لتهديد التدخل السياسي. وبهذا المعنى، تتسبب السياسات “الخاطئة” في فقدان ثقة المستثمرين، مما ينتج عنه ما يمكن اعتباره بأنه ضربة استثمارية لأصحاب رؤوس الأموال. هذا المنظور الذي يتبناه كاليكي يجعل الاقتصاد الرأسمالي يبدو كلعبة تفاعلية، مختلفة عن كونه آلية طبيعية أو آلية تشبه في عملها الماكينات. وفي هذا المنظور، ليس من الضروري أن يُنظر إلى النقطة التي يتفاعل فيها الرأسماليون سلبا مع التخصيص غير السوقي باعتبارها ثابتة أو يمكن توقعها رياضيا، بل إنها قابلة للتفاوض. على سبيل المثال، يمكن تعيين هذه النقطة من خلال مستوى من الطموحات قابلا للتغير تاريخيا، أو من خلال الحسابات الاستراتيجية. ولذلك عادة ما تخفق التوقعات المبنية على نماذج اقتصادية مختلف من الناحية التاريخية والثقافية؛ إذ تعتمد هذه التوقعات على معايير ثابتة، بينما هي في الحقيقة متغيرة اجتماعيا.

[6] John Goldthorpe, ‘The Current Inflation: Towards a Sociological Account’, in Fred Hirsch and Goldthorpe, eds, The Political Economy of Inflation, Cambridge, MA 1978.

[7] Already in the 1950s Anthony Downs had noted that in a democracy the demands from citizens for public services tended to exceed the supply of resources available to government; see for example, ‘Why the Government Budget Is Too Small in a Democracy’, World Politics, vol. 12, no. 4, 1960. See also James O’Connor, ‘The Fiscal Crisis of the State’, Socialist Revolution, vol. 1, nos 1 and 2, 1970.

[8] Greta Krippner, Capitalizing on Crisis: The Political Origins of the Rise of Finance, Cambridge, MA 2011.

[9] David Spiro, The Hidden Hand of American Hegemony: Petrodollar Recycling and International Markets, Ithaca, NY 1999.

[10] Robert Reich, Locked in the Cabinet, New York 1997.

[11] Joseph Stiglitz, The Roaring Nineties: A New History of the World’s Most Prosperous Decade, New York 2003.

[12] Colin Crouch, ‘Privatised Keynesianism: An Unacknowledged Policy Regime’, British Journal of Politics and International Relations, vol. 11, no. 3, 2009.

(13) يُظهِر الرسم البياني التنمية في بلد رأسمالي رائد – الولايات المتحدة. وبالنسبةِ لبلدانٍ أخرى، من الضروري وضع ظروفها الخاصة في الاعتبار، بما يتضمن موقعها من الاقتصاد السياسي العالمي. في ألمانيا، على سبيل المثال، بدأ الدين العام بالفعل في التصاعد بشدة في السبعينات. ويتوافق ذلك مع حقيقة أن التضخم الألماني كان منخفضا قبل فولكر، نظرا لاستقلالية البنك المركزي الألماني والسياسات النقدية التي اعتمدها منذ عام 1974(Fritz Scharpf, Crisis and Choice in European Social Democracy, Ithaca, NY 1991.).

[14] For a representative collection see James Poterba and Jürgen von Hagen, eds, Institutions, Politics and Fiscal Policy, Chicago 1999.

(15) بالنسبةِ لدولة يصل دينها العام إلى 100% من ناتجها المحلي الإجمالي، فإن زيادة 2% في متوسط سعر الفائدة التي عليها دفعها لدائنيها سيرفع عجزها السنوي بنفس المقدار. وعجز الميزانية الحالي، البالغ نحو 4%، سيزداد بمقدار النصف نتيجة لذلك.

[16] Joseph Schumpeter, ‘The Crisis of the Tax State’ [1918], in Richard Swedberg, ed., The Economics and Sociology of Capitalism, Princeton, NJ 1991.

(17) بعبارة أخرى، حتى الأسواق ليس لديها الاستعداد لوضع أموالها في العرض الذي وفقا له يتم تحفيز النمو من خلال الاستقطاع من الإنفاق العام. ومن جانب آخر، من يمكنه تحديد أي دين جديد يكفي لذلك، ومتى يكون القرض أكبر من اللازم على دولة لسد دينها القديم.

[18] The concepts were laid out by David Lockwood in ‘Social Integration and System Integration’, in George Zollschan and Walter Hirsch, eds, Explorations in Social Change, London 1964.

[19] Peter Mair, ‘Representative versus Responsible Government’, Max Planck Institute for the Study of Societies Working Paper 09/8, Cologne 2009.

(20) وفقًا لوولفجانج شوبله: “نحتاج لشكل جديد من الإدارة الدولية، والإدارة العالمية، والإدارة الأوروبية” – فاينانشيال تايمز، 5 ديسمبر 2010. يقرّ شوبله أن البرلمان الألماني إذا طُلِبَ منه التنازل عن وصايته القضائية على الميزانية، “سيكون التصويت بنعم”، “لكن إذا كان لدينا بضعة أشهر للعمل على هذا، وإذا كان لدينا أملٌ بأن توافقنا دولٌ أعضاءٌ أخرى أيضا، ستكون هناك فرصة”. كان شوبله يتحدث بصفته فائزا بمسابقة الفاينانشيال تايمز لوزير المالي الأوروبي هذا العام.

(21) على سبيل المثال، توجه منظماتٌ دولية نداءات بالتضامن من خلال “إعادة التوزيع” لدول بأكملها لمساندةِ دول أخرى، مثل سلوفينيا التي يُطلب منها بإلحاح مساندة أيرلندا واليونان والبرتغال. وهذا يخفي حقيقة أن من يتلقى هذا النوع من “التضامن الدولي” ليس الناس في الشوارع، بل البنوك الأجنبية والمحلية، التي تضطر في المقابل لقبول الخسائر أو الأرباح المنخفضة. يتجاهل ذلك أيضا الاختلافات في الدخلِ القومي. فبينما يُعد الألمان في المتوسط أغنى من اليونانيين (رغم أن هناك بعض اليونانيين أغنى من كل الألمان تقريبًا)، يُعتبر السلوفينيون أكثر فقرا بكثير من الأيرلنديين، الذين يتمتعون بدخلٍ أكبر للفرد من كل الدول الأوروبية تقريبا، بما فيهم ألمانيا. هذا الصراع الجديد قد ترجَمَ الصراعات الطبقية إلى صراعات دولية وتأليب لدول على أخرى، في حين أنها جميعا مُعرَّضة لنفس ضغوط الأسواق المالية من أجل التقشف العام. ويُطلب من الناس العادية تقديم “تضحيات” من أجل ناس عادية آخرين، في حين لا يُطلب ذلك من أولئك الذين يستمرون في تحصيل “أرباحهم”.

[22] C. Wright Mills, The Power Elite, Oxford 1956.

 

المصدر: بالأحمر

بقلم: وولفجانج ستريك

ترجمة: أشرف عمر

 

هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة