ماهية الحقيقة والصراع الباطني في رواية “لا تبكِ ..يا بلدي الحبيب”

الشاعر ع8 ديسمبر 2018آخر تحديث :
ماهية الحقيقة والصراع الباطني في رواية "لا تبكِ ..يا بلدي الحبيب"

ماهية الحقيقة والصراع الباطني في رواية “لا تبكِ ..يا بلدي الحبيب “للأديب  د.حسن حميد .

قراءة : أحلام غانم

أسئلةٌ قبل البَدْءِ لابدّ منها:

بتمهيد أبدأ بالسؤال: ما الحقيقة؟ أين نجدها وكيف نعرفها؟ هل الكتابة فعلٌ مقاومٌ؟ وهل هو جرحٌ أزليٌّ يحاول الخلود؟ أم تسلطي يريد الاستحواذ؟  قبل أن نلمح بحر البكاء ،قد نستعير صرخة ميشيل فوكو”اتركونا أحراراً عندما يتعلق الأمر بالكتابة “.

د. حسن حميد لا يقارب الحقيقة كمنظِّر روائي يجلس في برج عاجي أو كعالم يمارس أبحاثه داخل مختبره مقطوع الصلة بالعالم. إن د. حسن حميد يعيش الحقيقة ويواجه أسئلتها من واقع حيرته ومعاناته الشخصية، ورحلته الطويلة الشاقة التي انتهت به عند مخيم البكاء الذي يعد بمثابة الدليل بالنسبة إلى المسافر في حقيقة القضية الفلسطينية عبر محور المقاومة.

وإن كان يترك هذه المهمة للزمن فهو القادر على خلخلة الظروف وإذابة الملابسات والإبقاء فقط على كل ما هو حقيقي وأصيل.

و بعد سبر خفايا التخمينات والفرضيات والتأويلات لصفحات التاريخ الماضي ، القريب منه والبعيد للكثير من الأشياء حولنا،  قد يتجلّى لي مكنون السرّ الوجودي ،المودع في كينونة الدمعة الحسينية، ويتراءى خيط الماء للقارئ المُتَفكّر  في البعد الكوني الممتد واللامتناهي الامتدادات ،وتراءى لي  يعيد  الأديب “حسن حميد ”  في روايته “لا تبكِ ..يا بلدي الحبيب”الصادرة حديثاً  عن دار كنانة علاقة الذات بالعالم عبر اللغة ،ويسير باللُّغْزِ  مسار  سيدة الصبر  زينب عليها السلام  وكأني أسمعه يعيد قولها  :”  قل للدليل يعرج بنا إلى كربلاء لنجدد عهداً  بقتلانا  وندفن الرؤوس “، ويدفع المتلقي لتشييد  مزارات يطوف بها المسلمون ، كي تشكل منارة وموضع اعتزاز وفخر لكل تائه أو عارف، وتقدير لكل بلد يحظى بهذه الرؤوس.

من خلال الإهداء  الذي يضعه الكاتب :”إلى أهلي الشهداء ..غزلان الحرية ..والشمس “.. نقرأ وعياً أو نسقاً يكاد يتحول إلى بخور ..في سماء المخيم ..وهذا الحس للشهداء لديه هو  بعض من حسه المكاني ،فسواء أكان المكان السجون المظلمة ،أو سوق الحسبة، أو أنفاقا حفرت تحت القبور أو مقاماً للسمو والارتقاء نحو النور.

حيث يقول : “كنت أظنُّ أن المقبرة ، وفي هذه الآونة هي المكان الأكثر أماناً في أوقات الحرب “..ص-26

كيفما نقرأ في رواية “حميد ” فإننا باستمرار نتحرك في خطوط تتوازى فيها الوقائع والرموز فتعود بنا إلى تجربة “أهل المخيم ” وانتماؤهم إلى الأصول الإيرانية وذهولهم الدائم  إزاء الحب والموت في الإنسان والطير والحيوان .  وتخرج اللغة  عن الذات لتفجّر المكبوت وتصبح ذات إيحاء يشي بكشف الأسرار  ،معها وبها يواصل التفكير في مسألة وجوده الفلسطيني ليشرعه  على الساحة الإبداعية  بدءاً بالواقع و امتلاءً به  ،وهنا  نقطة المعادلة الصعبة التي جمعت بين اسمه حسن ،وبين فكره الحميد، وقلمِهِ الذي يَتَّصِفُ بخِصَالٍ حَمِيدَةٍ ..ولهذا من الصعب الإحاطة بها مهما  حاولت إزالة  الحواجز والحدود بين الواقع واللاواقع، بين الوعي واللاوعي لأن الذات الحسينية في زمن تكاثرت فيه  خلايا الوعي على حساب خلايا اللاوعي  رفضتِ المنطق المعلّب وتسامتْ في منطق الحقيقة .

ولسان الدمع يقول : “حدثتني جدتي واسمها (عامة )أنها علمت من جدة لها أن أصولنا تعود إلى مدينة طهران الإيرانية ،وأن أحد أجداد الأسرة، واسمه علي الرضا مصطفى جاء إلى فلسطين حاجاً وهو في السادسة عشر من عمره “.ص_61 هذا الاعتراف كافياً لتشويق القارئ وجعله متسابقاً مع الكاتب في فك فصول وأسرار  الرواية ومصدوما  من التفاصيل الغير متوقعة في السرد الروائي.

وهنا ينبغي الإشارة  إلى قوله :” لا بد من أن امرأة مقدسية استحوذت عليه ،فما من شيء يعوّق الرجل عن رؤية أمه سوى امرأة عاشقة أمسكت به أو محبة غامرة طوّقت عنقه ، ولا يطوي حب امرأة سوى حب امرأة أخرى” ص- 62

ملاحظات “حسن حميد ” تدفع المتلقي لمعرفة الباطل والنهوض لمواجهته وتغييره  وبغض النظر عن كل التفاصيل الأخرى ،هي  ينابيعٌ تتفجر وتراوغ البكاء المباح والمحتمل  في السرد ، بلغة فاقت الخيال ، لغة قوامها الحسّ الإنساني ،فوطنه يتحول إلى لغة  لأنه  يحن إليه ويفتقده  ، ولا يخشى الهزيمة  ،لذلك يتوج نفسه حاكماً ومتحكّماً  في شخوص الرواية كما يتحكم الضوء في سرعة الصوت.

فالبنية المكانية ، وهو المخيم  الذي استباحه  دعاة الحرية  وقد أبدع الكاتب في توظيفه  في النص ،ولكي تكتمل روعة المشهد  أبدع في أنسنة المخيم  مما طوعه للتحرك  مع طموحاته والاستجابة لعشقه  الجامح للأرض السورية وما فوقها  وما تحتها وما ينبت عليها من قيم وأهمها التسامح.

في إطار  ذلك يشير :”أن مهنة الناس في دمشق  هي السعادة والسرور والرضا ، وأنهم يعيشون  في مدرسة اسمها مدرسة الحياة لكي يصير التسامح والود واللطف  من مواليد البيوت .”ص-267

وهنا يطفو السؤال : ترى أين ينتهي السجال العقلي وتبدأ أعمال العنف ؟

ها أن -الروائي –  يعاين  رؤوساً ستجز ويراقب تسلسل الضحايا ، تسلسل الأحداث المترابطة  ،  ما بين الطف والشام، ما بين  دمشق  والقدس ،وحلب وبغداد ،ونسف  وتدمير المقامات الدينية في الرقة، والاعتداءات المتواصلة على الجوامع و مقام السيدة سكينة قرب دمشق  حيث نتج عن التداخل والتفاعل بين الشخوص عوالم متخيلة جديدة ومتجددة بمثابة محكيات تتناسل كلما اقتربت من بعضها البعض، حيث يتمدد الأسى والحزن  والإحساس بعدم القدرة على مواجهة الخصم،لذلك نجد أينما تطلّب الأمر كان يسند الكاتب مهمّة الشخصيات بالسرد، فيجدها  -كُلا  لا يتجزأ- مجتمعة لا انفصام لها ، رغم البعدين الزماني والمكاني.

حرص “حميد” على أن ينهض شكل التعبير استناداً إلى تقليد فنّيّ معروف ، هو تقسيم الرواية أقساماً تحمل عناوين ،أو تقسيمها أقساماً تحمل هوامشاً ،أو تقسيمها أقساماً يحمل كُلُّ قسمٍ اسم شخصية من الشخصيات ،أو مرحلة من تطوُّر حوادث الرواية .

وقد نتفق أو نختلف في مدى صحة هذا التطور ومدى صحة التقسيم  بين ما هو سيري وما هو تخييلي  في حواشي الرواية.

أسئلة شيطانية :

أسئلة شيطانية كثيرة تطالعك كلّما تقدمت في القراءة ، علماً أن الجواب استند إلى تقليدٍ فنّيٍّ آخر ،هو اختيار راوٍ عالمٌ بكُلِّ شيء،يسرد مضمون الرواية بأسلوب دائري أشبه بأسلوب الرحلة المعروف في الرواية العربية والذي هو مزيج من  الخوف الذي يغلف كل الاحتمالات.

و لكننا لا نختلف في  أن  هذا العنوان يفضح انتماء النص إلى الذاكرة والسيرة الذاتية أو الجمعية ، وتحمل النصوص من التخييل قدراً أكبر من مجرد تسجيل أحداث مرت بالكاتب أو عاشها بالمخيم  وكأنه نقلها إلينا  عبر نظام لغة برايل الكتابة المكتوبة المستخدمة للمكفوفين أو ضعاف البصر عن طريق اللمس ،بحيث هذه النقاط تمثل للكثير من المكفوفين  والمظلومين والمهمشين مفتاحا لمعرفة العالم أو للشخصيات التي لا تعرف الأسئلة الشيطانية كشخصية  “فضية العبد “الخرساء أم شهدي.

رواية الروح الجامعة:

إن الواقع أغرب من الخيال لكن دموع المؤلف  حميد التي تتقن فن الظهور والكمون وفن الإضمار والإبانة عرفت كيف  تعجن هذا الواقع  بلغة الانتباه والصحو  وتضيف إليه توابل التخييل وملح الإيمان لتخرج لنا القيم النبيلة و رواية الروح الجامعة.

عن الرواية:

“منذ زمن بعيد ، لم ارَ الخوف يمشي على قدمين داخل المخيم مثلما أراه اليوم ولم أسمع مثل هذه الأحاديث  المتكاثرة حول فتنة قادمة ، أو حرب قادمة مثلما أسمع اليوم ،وأن المخيم مهدد بويلات قادمة “. ص-14

“الإيراني الأستاذ ديب العلي ، كان واحداً من الناس الفرحين بالمشفى ،لأنه حقق واحداً  من أحلامه الكثيرة ،وهو الذي كان يقول إن مقام السيدة زينب روح جامعة للناس على الخير والمحبة والحوار، وروح صلة  ما بين معاني الماضي والحاضر والقيم النبيلة “ص-52

“الطيور حين تطير ترحل ولا تعود” ص-98

” كل حديثه يدور حول انتصار سورية  لأن انتصارها  انتصار لأحلام  الناس الذين ما نسوا  فلسطين والق\س وعكا وحيفا !” ص-254

” فوجئن وقد رأين جرحاً طويلاً مخاطاً  يبدأ من عند رقبة شكرية ويهبط إلى أسفل سرتها ، خيطان الجرح  ليست طبية، فهي غليظة وأشبه بخيطان الخيش أو القنب ، وهذا ما لفت انتباه النسوة ،فبادرت إحداهن بفكِّ الخيط ، وهنا كانت المفاجأة المذهلة ! فشكرية  لم تكن حبلى ، ولم يكن في بطنها سوى رأسي أخويها شاكر وشكري المقطوعين “ص-200

رجل استثنائي :

محطات كثيرة تتشكل منها رواية ” لا تبكِ .. يا ولدي الحبيب”: المخيم ، المقبرة ، مقام السيدة زينب ،..سوق الحسبة ، مشفى الخميني..

محطات قد تبدو متناقضة في عناوينها ،لكنها في الواقع ليست أكثر من ارتدادات متداخلة السببية  في حياة رجل استثنائي، فمن عالم الحروب والقتل والموت  إلى عالم الخشوع  والإيمان والرهبة، ومنه إلى عالم النساء والعشق والحب ، ينتقل الكاتب مدفوعاً  مرّةً بفعل الرغبة وأخرى بفعل الواجب، فالحرب بالنسبة إليه قضية وطنية وعقائدية .

رائحة التاريخ الكربلائي :

إنه يفجر نبعا مقدسا قد نجد فيه رائحة التاريخ الكربلائي ولكن القارئ  لا يجد تاريخاً في النص ، إنه الفانتازيا /اللاواقع الذي يشبه الواقع/الاستثناء وعبر هكذا شخصية قد تنتمي إلى اللامنتمي ويعمل الروائي على ضخ  ما تضج به ذاكرته من آلام.

في مثل هذا الجو المفعم بذهول المقابر ولكن أيضا بجموح المقاومين المحبين ، تجري قصص الحب ولقاءات الموتى  في وتيرة عجيبة وتحت أعين موتى لا يرون .

حين نؤرّخ لأنفسنا بحواسنا الخمس ، تصبح المصائب مجالاً للتحقّق من فضول ما :أنّ عاشوراء لم تكن أسطورة في كربلاء .. والأهالي في المخيم  مشوا قطاراً بشرياً  طويلاً عريضاً  إلى المقبرة ليس مزحة .

في كل عصر زينب :

فالأحداث تخلق في كل عصر زينب وزينب هذا العصر هي من قدمت قوافل الشهداء وهي من قالت للظلم لا ..وشكرية  إحدى الزينبيات التي رفضت منطق الجور وهنا كانت المفاجأة المذهلة :” فشكرية لم تكن حبلى ، ولم يكن في بطنها سوى رأسيّ أخويها شاكر وشكري المقطوعين “.-ص 200  من هذا المقطع الرمزي يمكن أن نستدل  على معنى الحسين (عِبرة وعَبرة ) فهو قيمة للتفكر  في ذات الوقت الذي سيظل جذوة حزن لا تنطفئ كان قد أشار لبقائها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم  بقوله :” إن لقتل ولدي الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لن تنطفئ).

النواة الحسينية المقاومة:

غير أن هذه الحرارة تتجدد بآليات  جديدة ومعاصرة محافظة على ولائها  وتمسكها  بقيمة الرمز الحسيني العظيم والوعي بالحاضر وأحداثه والتسلسل في إعطاء الأولوية الفكرية من الأهم إلى المهم ،لضمان استمرار  النواة الحسينية المقاومة . و يستمر القول :” علينا أن نكون نواة لقوة جديدة ، على لسان أحد المسؤولين في الحرس الثوري الإيراني وأن نكون نموذجاً حسناً للآخرين ،أن نكون قادرين على استقطاب الشباب وأهل الخبرة من أجل الدفاع عن المخيم ، والبلدات المحيطة بالمقام ..ولاسيما حين قال :”نحن نجدد عهد رسول الله ، نبي الإسلام  بتحالفنا معاً ضد الكفار والإرهابيين والمتطرفين في فهم الإسلام ، وعلينا أن نبقى معاً لأن هذه الهجمة التي نتعرض إليها  لا تخصّ مذهباً إسلامياً واحداً،ولا تخص سورية كدولة واحدة ،وإنما هي هجمة شاملة هدفها تدمير كل شيء، ومنع الآخرين، والدول ..من الوقوف في وجه المشروع الصهيوني”.ص-238

على سبيل الختم : هذه رواية كتبت في ذاتها  وصفاتها بفن احترافي  متميز بمستويات سردية  متوالية في تعدد الشفرات  ضمن تكثيف تعدد الأصوات، ومتتالية  في الرصف البنائي ( بداية وتصاعد وخاتمة )

أبطالها مهمومون بيأسهم الذي يتجرعونه  بين كونهم أشرارا أو أخيارا، لذلك  في  هذا السرد لا  يمكن أن ننظر إلى تعدد الأصوات بانتقال الروي من شخص إلى آخر ،إنما باختلاف الرؤيا بين هذه الشخصيات تجاه الحدث . فمن المعلوم أن لا أحد يفكر خارج اللغة ،ولكن مع الأديب والروائي د. حسن حميد ستصبح اللغة أكثر من أداة للتعبير ،إنها جسد النص الذي يسكن فيه المعنى أو روح النص .

من خلال هذا النزف المقدس يمكننا أن نفهم  فلسفة  انتصار محور المقاومة ، إذ إنه ساهم  وبشكل كبير  في الحفاظ على شعلة الحق مضيئة مشعة ،لأن نصرها نصر للمبادئ والقيم السامية رغم تقديم هذا البحر الكبير من دم الشهداء،وتبقى الشهادة هي الأفق التي يطل منه  عظماء الزمان والمكان.

مما يجعلنا نحس وكأن  لغة البكاء في رواية ” لا تبكِ ..يا بلدي الحبيب أصبحت مخيما /فكرا  يتحدث باللغة وحين تحاول الإمساك بالمخيم واللفظ والمعنى ، ينزلق منك كزئبق يصعب الإمساك به كما يصعب الإمساك برأس الحسين عليه السلام ..لأن القدس بوصلة الثالوث المقاوم  (سورية وإيران وحزب الله )  للمشروع الصهيوني  ويبقى هذا المحور الحسينيّ عصياً كالماء لا ينكسر .

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة