أزمة الليرة وأزمة العلاقات التركية الأميركية

الساعة 2515 أغسطس 2018آخر تحديث :
تركيا ممر بين قارتين
  • كيف إذن يمكن لتركيا مواجهة التحديات التي تفرضها الأزمة المالية/ الاقتصادية؟
  • تفاقم الأزمة الاقتصادية التركية لن يؤثر على تركيا وحسب، بل وستسمع أصداؤه على صعيد عالمي.
  • لا حل للأزمة بدون إجراءات فعالة وسريعة تمس المالية العامة والهيكل الاقتصادي، الإنفاق الحكومي، التضخم، نسب النمو الاقتصادي.
  • يجب أن تبحث أنقرة عن شبكة علاقات كافية لتأمين احتواء مبكر لتقلبات العلاقة مع الحليف الأميركي.

بقلم: بشير موسى نافع

كما هي أغلب خطواته السياسية، اتخذ الرئيس ترامب قراراً مفاجئاً بفرض عقوبات على وزيرين تركيين، بحجة دورهما في إيقاف القس الأميركي برونسون بتهمة الإرهاب في تركيا. بمجرد إعلان قرار العقوبات، في تغريدة لترامب على التويتر، تسارع هبوط الليرة التركية أمام الدولار وعملات التداول الأخرى.

لاحتواء الأزمة مع واشنطن، سارعت أنقرة إلى إرسال وفد برئاسة نائب وزير الخارجية التركي للتفاوض مع نظيره الأميركي لبحث أزمة القس برونسون. ولكن التفاوض بين الطرفين لم يصل إلى نتيجة.

وما إن بدأت رحلة عودة الوفد التركي إلى بلاده حتى غرد ترامب من جديد، منذراً بفرض رسوم جمركية مضاعفة على صادرات الألمنيوم والصلب التركي إلى الولايات المتحدة. إعلان ترامب الغريب، الذي أشار بصورة فجة إلى ضعف الليرة التركية، دفع الليرة إلى الهبوط من جديد. خلال الأسبوع الثاني من أغسطس/ آب، خسرت الليرة ما يعادل 20 بالمئة من قيمتها أمام الدولار.

ترتبط تركيا بعلاقات اقتصادية مالية وثيقة مع دول السوق الأوروبي، وتعتبر، رغم أنها ليست عضواً في مجموعة “بريكس”، إحدى القوى الاقتصادية الصاعدة، مما أهلها لعضوية مجموعة العشرين. تفاقم الأزمة الاقتصادية التركية لن يؤثر على تركيا وحسب، بل وستسمع أصداؤه على صعيد عالمي.

وهذا ما أدى إلى هبوط ملموس في أسواق الأسهم الأوروبية صباح الاثنين 13 أغسطس/ آب، هبوط مواز في قيمة اليورو، وانتشار مخاوف من تأثر عملات دول الاقتصادات الصاعدة، التي تعاني هي الأخرى من قوة الدولار ومعدلات تراجع متفاوتة في قيمة عملاتها.

ليس من الواضح بعد ما إن كانت تصريحات قادة الدول الأوروبية الرئيسة، بما في ذلك المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، المؤيدة لتركيا، وإجراءات البنك المركزي التركي، ستوقف نزيف الليرة. لكن المؤكد أن الأزمة المالية/ الاقتصادية التركية متعددة الجوانب، وأن الجانب الأميركي منها ليس مرشحاً لحل سريع.

أخذت قيمة الليرة في الهبوط منذ ما قبل محاولة الانقلاب الفاشلة في صيف 2016، ولكن هذا التراجع أصبح أكثر حدة ومدعاة للقلق هذا العام. يعود الانحدار الحثيث للعملة التركية يعود لجملة أسباب:

– حجم الاقتراض الكبير، سيما للقطاع الخاص، خلال السنوات العشر الأخيرة، مدفوعاً بالانخفاض الكبير في أسعار الفائدة على العملات الرئيسية منذ ما بعد أزمة 2008 العالمية؛

– الانفاق الحكومي المتزايد في العامين أو الثلاثة الماضية؛

– العجز المستعصي في الحساب الجاري؛

– ارتفاع معدل التضخم، إلى أن وصل إلى ثلاثة أضعاف المعدلات المسجلة في دول الاقتصادات الكبرى.

وكانت قيمة الدولار ارتفعت إلى ما يزيد عن أربع ليرات عندما اندلعت أزمة العلاقات التركية – الأميركية. وما إن أعلنت إدارة ترامب عن الإجراءات العقابية ضد تركيا، غير المسبوقة في تاريخ العلاقات بين الولايات المتحدة وأي من دول حلف الناتو الأخرى، حتى شهدت الليرة تسارعاً غير مسبوق في انخفاض قيمتها أمام العملات الرئيسة.

في ظاهرها، تبدو الأزمة التركية – الأميركية وكأنها نتاج قضية القس برونسون، ورغبة الرئيس الأميركي في إرضاء القطاع المسيحي الأصولي من قاعدته الانتخابية، قبل شهور قليلة فقط على انتخابات الكونغرس النصفية.

الحقيقة، أن مسألة برنسون هي واحدة فقط بين عدد من ملفات الخلاف المتفاقم بين البلدين، وربما ليست الأهم بينها.

ترى تركيا أن رعاية الولايات المتحدة لميليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي المسلحة في سورية تمثل تهديداً للأمن القومي التركي؛ بينما تحاول الولايات المتحدة، بلا طائل حتى الآن، منع تركيا من شراء نظام الدفاع الجوي الروسي، “إس 400”.

وقد جاء إعلان أنقرة عزمها عدم الالتزام بالعقوبات الأميركية على إيران، التي بدأ تطبيقها بالفعل منذ 7 أغسطس/ آب، ليضيف ملفاً آخر إلى علاقات البلدين القلقة.

ثمة تقدم جزئي وصغير أحرز في الاتفاق حول مصير منبج، ولكن أحداً لا يتوقع أن يضع الاتفاق نهاية لاصطدام المصالح بين أنقرة وواشنطن في سورية. كما لا يتوقع أن تساعد لغة التهديد الأميركية في إيجاد مخرج سريع لقضية القس برنسون.

المسألة التي لا ينبغي تجاهلها أنه رغم عمق جذور علاقات التحالف التركي – الأميركي، وتعود حتى إلى ما قبل التحاق تركيا بحلف الناتو في 1952، فإن هذه العلاقات مرت بسلسلة من الأزمات، طوال العقود السبعة الماضية، وفي عهود تركية سياسية مختلفة، سبقت وصول حزب “العدالة والتنمية” إلى الحكم.

بدأت الخلافات بين البلدين برسالة جونسون التهديدية بخصوص السياسة التركية تجاه قبرص في 1964. وبعد عشرة أعوام من رسالة جونسون، أوقفت الولايات المتحدة تصدير السلاح إلى تركيا، على خلفية التدخل التركي العسكري في قبرص لحماية القبارصة الأتراك.

وليس بعيداً، بالطبع، تصويت البرلمان التركي ضد السماح للولايات المتحدة باستخدام الأراضي التركية لغزو العراق في 2003، واتباع إدارة بوش الابن سياسية عزل تركيا عن الشأن العراقي.

 بكلمة أخرى، لأن واشنطن، في أغلب الحالات، لم تعامل تركيا على قدم المساواة، ولا أظهرت ما يكفي من احترام لاستحقاقات التحالف المتبادلة، يصعب وصف العلاقات التركية – الأميركية بالتحالفية المستقرة.

وربما حتى إن وجدت أنقرة وواشنطن مخرجاً ما لقضية برونسون، فإن ملفات الخلافات الأخرى من التعقيد بحيث يبدو من المغامرة توقع حلها في المستقبل القريب.

الأرجح، أن هذه الخلافات ستتكرر وتزداد نظراً لنزوع السياسة التركية إلى الاستقلال والانفتاح على قوى متعددة. ولكن ذلك لا يعني بالتأكيد أن هذه العلاقات تتجه نحو القطيعة. حاجة البلدين لبعضهما البعض لم تزل أكبر وأكثر إلحاحاً من قائمة الخلافات بينهما.

فكيف إذن يمكن لتركيا مواجهة التحديات التي تفرضها الأزمة المالية/ الاقتصادية؟

ما ينبغي ملاحظته، أولاً، أن مقدرات الاقتصاد التركي لم تزل قوية وراسخة؛ ولا يمكن مقارنة حجم ومقدرات تركيا الاقتصادية بحالات مثل اليونان أو البرتغال وإيرلندا.

لم يزل الدين الحكومي مقارنة بالدخل القومي (28 بالمئة) أقل بكثير من مؤشرات ديون معظم الدول الأوروبية. لكن المشكلة هي في دين القطاع الخاص، الذي قد يطيح ببعض الشركات التركية.

من جهة أخرى، تتمتع تركيا باحتياطي مالي ملموس، يتجاوز 120 مليار دولار. وإن وضع في الاعتبار الأثر الإيجابي الذي سيتركه انخفاض قيمة الليرة على قطاعي الإنتاج والخدمات، فمن المتوقع أن يشهد الاقتصاد التركي تدفقاً أكبر للسياح، وارتفاعاً ملحوظاً في معدل الصادرات.

ولكن هذا كله لن يضع حلاً للأزمة بدون اتخاذ إجراءات فعالة وسريعة على صعيد المالية العامة والهيكل الاقتصادي، بداية من خفض الإنفاق الحكومي، محاصرة التضخم، تحمل نسب بطالة أعلى لبعض الوقت، والتضحية بنسب النمو المرتفعة لعامين أو ثلاثة. كما يجب أن تبحث أنقرة عن وسائل وشبكة علاقات كافية لتأمين احتواء مبكر لتقلبات العلاقة مع الحليف الأميركي.

الاقتصاد التركي، باختصار، قوي وأقوى من أن تطيح به الأزمة الحالية. ولكن الخروج من الأزمة بأقل خسائر ممكنة يتطلب قدراً من القرارات الحكيمة والشجاعة، التي لا يجب أن تتخذ في وقتها ولا تؤجل طويلاً.

* د. بشير موسى نافع مؤرخ وأكاديمي عربي

المصدر: عربي 21

مفاتيح: تركيا، الولايات المتحدة، دونالد ترامب، أزمة الليرة التركية، العلاقات الأميركية التركية، القس أندرو برونسون،

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة